كل ذلك وهو لم يكن يجسر أن يرفع درجة غرامه بمحبوبتي إلى أكثر من درجة إعجابه بها؛ لأن فؤاده كان قد تعلق صغيرا بهوى فتاة يتيمة من عشيرته، وكان جل ما يصبو إليه من دنياه أن يقترن بها ويعيش وإياها في عزلة وانفراد، وكان يمنعه من ذلك ما هما عليه من فقر كانا يخشيان أن يحط من شأن بيتيهما ويكون عارا وذلا على بنيهما حتى عاجلت الفتاة المنية فقصفتها غصنا رطيبا في شرخ صباها على أثر همومها وافتقارها وهي أجمل زهرة رأيتها تذبل وتجف؛ لامتناع بعض أنوار السعادة عنها، وكانت قبل وفاتها قد أثر بها البكاء والسهر من سوء حالها، فذهب بصرها وأصبحت تدور كفيفة تقودها إحدى أخواتها. وأذكر أني قابلتها مرة على تلك الحال، فلما سمعت صوتي اصفر لونها اصفرارا شديدا، وقالت وهي تبكي: لا تؤاخذني إذا بكيت لديك، فقد اعتادت أذني أن تسمع صوتا آخر معك. تريد به صوت حبيبها. وقد شقي كل منهما بصاحبه بين الموت والحياة.
ولقد قضيت شهرين بعيدا عمن كنت أحب خلتهما عامين؛ من ضجري ومرارة صبري. ثم نفد ما معي من المال الذي كان يجريه أبي راتبا علي، قبل أوانه، وأصبحت مضطرا لانتظار الراتب الجديد؛ لأعود به إلى باريز وأقيم فيها بقرب من أهواه ولو قضيت أيامي هناك بالإمساك والصوم، وكنت أرجو أن أحصل بعد أيام على مقدار من المال من راتب أبي وهدايا أمي وإمداد بعض ذوي قرباي، أستعين به على رحلتي والإقامة في الجوار الذي كنت لا أتمنى سواه ولو أعطيت ملك الدنيا جميعا، فجعلت أقطع أيامي بتذكارها والاشتغال بهواها اشتغالا كان بيني وبينها على السواء؛ إذ كنا نصرف أصباح أيامنا في أن يكتب كل منا لصاحبه، فلا يردني كتاب منها حتى يردها مثل ذلك مني مع كل بريد، وفي كل يوم، بحيث كانت كتبنا وأفكارنا تختلف بيننا مستمرة.
يقابل منها الكتاب الكتاب
ويحمل كل نسيم سلاما
ولم تكن بيننا على ذلك فرقة وابتعاد إلا بعض ساعات من النهار حين لا أكتب لها ولا تكتب لي، إلا أنني لا أسمي ذلك ابتعادا ولا فراقا؛ لأنني كنت لا أستريح من الكتابة إليها إلا للتفكير بها ولا من التفكير بها إلا لقراءة رسائلها ولا من قراءة رسائلها إلا للتأمل في معانيها، فكنت أنشرها على مكتبتي في النهار وأنثرها على سريري في الليل، وأحفظها عن ظهر قلبي في ساعات الفراغ وأنا أكرر منها كل معنى لطيف وأترنم بكل عبارة غرامية صادقة، وأنا أمثل في ذلك صوت صاحبتها ولهجة إلقائها وحركة أعضائها، ثم أجيب نفسي بما كنت أحب أن أجيبها به لو كانت لدي.
وتمادى بي الأمر وأفرط بي هذا الجنون الذي يسمونه الغرام إلى أن صرت أحتسب الخيال حقيقة، ومناجاة الضمير سماعا وعيانا، وأسخط على كل من يقطعني عن تلك الحال من زائر يزورني أو غلام فندق يدعوني للطعام، كأن كل داخل علي يبعدني عنها أو يطردها من أمامي.
وكنت أخرج غالبا إلى النزهة في المروج الخضراء والغابات الكثيفة وشطوط الأنهار المزبدة ومعي من رسائلها قراءة أيام، فأجلس على بعض الصخور وأعيد تلاوتها كأنني لم أقرأها من قبل أو كأنها بناء مزخرف كلما دخلت إليه مرة وجدت فيه شيئا جديدا. وكانت الوجهة التي أقصدها في نزهتي وجهة باريز اعتقادا مني أن كل خطوة فيها كانت تقربني إليها، فأبعد في سيري ولا أدري حتى أمسي وقد قطعت أرضا بعيدة، فأعود على أعقابي كارها وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأحسد كل ما يمر بي من الطير لو يكون لي جناحاه أطير بهما إليها، ولسان حالي ينشد:
مرت بنا سحرا طير فقلت لها
طوباك يا ليتني إياك طوباك
وكان أطرب صوت في مسمعي وقع أقدام الموزع أمام حجرتي حين يأتيني برسائلها، حتى إذا أطل علي ورأيت كتابها في يده أشعر أن الأرض قد دارت بي، وأن سحابة قد غشيت عيني فأتناوله منه بيد راجفة وقلب خافق، ثم أختلي في حجرتي وأوصد بابها كأنني أخشى أن يفاجئني أحد ينزع ذلك الكتاب مني أو يكدر تلك الخلوة علي، فلا أفرغ من قراءة الرسالة إلا وقد محوت أسطرها بدموعي، وأثرت كتابتها في شفتي، ثم أجلس بعد أن يسكن روعي وآخذ في الإجابة عليها ساعات تنخطف بها نفسي إلى عالم الخيال، وأحسب فيها أنني أخاطبها بلسان لا بقلم، فأنسى الدنيا جميعا وأذهل عن لوعة الفراق، ثم أنظر في رسائلي فأجدها مضطربة مرتبكة لا مطلع لها ولا ختام ولا مخلص، ولا نحو فيها ولا صرف ولا بيان، ولا ما يسمى بالترسل وحسن الإنشاء؛ وذلك لأنني كنت أضع فيها شعائر قلبي مجردة عن كل صنعة، وأعرض فيها خواطر لبي عارية عن كل كلفة إلى خواطر لب مثلها لا تكلف بينها ولا تجمل، ولأنني كنت أجد لغة الناس لم يخلق بيانها وفصاحة إنشائها إلا لمخاطبات اللسان، وأنها بكل بلاغتها وإبداعها عاجزة عن بيان خفقة قلب من مغرم وعلامات غير كاملة الدلالة على ما يخامر فؤاد المحب الولهان، بل كنت أشعر أن كل عبارة من فصاحتها تذوب على قلبي كما يذوب الثلج على حرارة النار، فأعدل عنها إلى لغة غرامي وألفاظ صبابتي التي لا يدركها إنسان سواها ولا يكتبها كاتب سواي. ثم كنت أتصور أنه لو انبسط هذا الفلك قرطاسا لدي، وجرى ذلك البحر مدادا على قلمي، وصار إلي أمر الله أن أملأه غراما وشرح وداد ووصف هيام؛ لما وسع بعضا مما كنت أشعر به وأتصور مقداره في نفسي، فكنت أملأ صفحاتي سطورا لا يقف القلم إلا في آخرها وأنا أحسب أنني لم أقل شيئا مما أحب أن أقول، وما عساني أبلغ المستحيل وأحصر ما لا نهاية له بين صفحتي كتاب.
Page inconnue