الفصل الرابع
آية العفاف
وكان اليوم ساكن الريح فاتر الهواء على البحيرة بقدر ما كان عاصفا باردا بالأمس، وكانت الجبال غارقة في بحر من الشفق البنفسجي لا يكاد يتميز عنها بلونه، والجلد صافيا توشيه نكت من الغيم الأحمر كأنها ريش ببغاء تناثر في السماء تحت مخالب نسر جارحة، وكانت البحيرة صافية الماء شفافة الأديم كأنها مرآة ترى بها خيال المجاذيف والوجوه، وفاترة الحرارة حتى كنا نضع أيدينا فيها فلا نشعر من الماء بسوى جرمه. وكان يفصل بيننا وبين النوتية شراع صغير فاتكأت غصن البان إلى جانب من الزورق بعد أن لففت جسمها بردائها وغطيت رجليها بردائي وقاية لها من ندى الليل، ثم اتكأت على شبكة هناك وأنا طافح القلب ممتنع الكلام شاخص البصر إليها، وما عسانا نحتاج إلى خطاب ونحن نرى الشمس والمساء والجبال والهواء والماء والمجاذيف واهتزاز الزورق وزبد آثاره، ونظراتنا وسكوتنا وأنفاسنا ونفوسنا قد اجتمعت كلها تتكلم عنا؟ بل كنا كأننا نخشى أن تبدر منا كلمة تكدر ذلك السكون السار، حتى لقد حسبنا أننا سابحون من زرقة البحيرة إلى زرقة السماء، لاشتغال أبصارنا عن الشاطئ المقبلين عليه.
وفيما نحن كذلك سمعت منها تنهدا امتد به نفسها أكثر من غيره كمن يتنهد من تعب، فاستويت مجفلا وقلت لها: أتتألمين؟ قالت: لا، ليس ذلك بألم بل هو فكر. قلت: وما عساه يكون؟ قالت: إني أفكر أنه لو أمر الله الطبيعة الآن بالسكون فوقفت الشمس في مكانها لا تغيب، وهذا الظل في موقعه لا يزول، وهذه البحيرة بمائها، وهذا الهواء في فتوره، وهذا الشاطئ على بعده منا، وهذا النور ينعكس عن جبينك، وهذه النظرة الحلوة في عينيك، وهذا السرور الطافح في قلبي، واستمر ذلك إلى ما لا نهاية له؛ ما قدرت على إدراك ما أنا فيه الآن. قلت: وما هو؟ قالت: اجتماع الأبدية في دقيقة والخلود في وقفة ساعة.
فسبقني لساني إلى أن أجبتها بعبارة من عبارات الحب الفاسد بدرت مني خلافا لما في قلبي من الطهر والعفاف، ومعناها أن مثل هذا السرور لا يكفيني إن لم يكن مقدمة لسواه، وكأنها أدركت ما أريد فاحمر لونها خجلا مني، وأشاحت بوجهها وقد أنار عليه العفاف، ثم التفتت إلي وقالت بصوت منخفض: لقد أسأت إلي كثيرا، فادن مني واستمع: إنني لا أدري إذا كان ما في نفسي منك وفي نفسك مني هو ما يدعونه بالحب في هذه الدنيا، التي يكون للكلمة فيها معنيان لا أريد أن أعلم أحدهما ولا أريد لك العلم به، ولكن الذي أدريه أن أعظم سرور النفس وسعادتها من نفس مثلها هي أن تجد تلك النفس مشابهة لها في حالاتها وصفاتها حتى لا يتباين جرماهما إذا اتحدا، ولعمري إن مثل هذا السرور بين النفسين والحاستين والفكرين ينحصر فيهما فلا يتعدى إلى ما سوى ذلك لهو السرور الذي يتحد به القلبان حتى يتمازجا كما يمتزج نور الشمس عند مغيبها بنور القمر عند طلوعه حينما يتقابلان في الأفقين، وما خرج عن ذلك من السرور الساقط - الذي لا أدري كيف يسمى سرورا - لأشد بعدا عن صلة الامتزاج واتحاد الأرواح من الغبار السافل عن علاء النجم، ومن الدقيقة عن الأبدية. ثم ماذا عساني أقول لك سوى إني أحبك، عبارة إذا لم أقلها قالتها الطبيعة عني فلأقلها إذن عن نفسي، بل لأقلها عن نفسينا أننا متحابان.
فقلت لها: نعم، قوليها، وقوليها ألوفا، بل لنقلها معا أمام الله والناس والسماء والأرض والعناصر والزمان؛ حتى تساعدنا الطبيعة فتردد صداها معنا. ثم قمت فركعت أمامها وقد انعقدت يداي وتغطى وجهي بشعري، فوضعت أنملها علي فمي وقالت: سكن روعك ودعني أتكلم ولا تقاطعني حتى تستوفي كل ما أريد. فجلست إلى جانبها وسكنت فقالت: لقد قلت لك أو لم أقل بل قال لك قلبي بلسان زفراته إنني أحبك، فأنا إذن أحبك بكل ما بي من القوة في حياة بنت ثمان وعشرين، تقضت أيامها تنظر ولا ترى، وتبحث ولا تجد حاجة قلب أنت سرها ومثالها، وأنا أرى الآن أنني رأيتك وأحببتك في حين لا ينفع الحب إذا كنت تعتقده كما يعتقده سائر الرجال، أو كما ظهر لي منك فيما قلته الآن من تلك العبارة الفاسدة. والآن فاسمع ما أقول واعرفني حق عرفاني، فإنني أسلم نفسي إليك كما أسلمها لنفسي وأنا على يقين من أنني لا أسيء إلى ذلك الأب الذي لا يريد أن يدعوني بسوى فتاته، ولست أمنع عنك مني إلا ما تريد أن أختص به نفسي. ولعلك تعجب من لهجتي هذه؛ إذ تراها ليست بلهجة النساء في أوروبا اللواتي لا يحببن إلا قليلا ولا يحببن إلا كذلك، فهن يخشين أن يبحن بأسرارهن خشية أن يذهب ذلك بحبهن من القلوب، أما أنا فلست منهن في شيء لا في وطن ولا قلب ولا تربية؛ لأنك تعلم أنني نشأت في منزل فيلسوف بين جماعة من العلماء لا يكتمون فكرا ولا يعرفون إيمانا من مثل إيمان الناس، فشببت لا أعتقد بعقاب تنخفض لديه جبهة النساء خجلا واستحياء إلا عقاب الضمير وقاضي النفس، ولا أومن إلا بإله غير منظور نقش وصاياه على صفحات الطبيعة وشريعته في القلوب وآدابه في العقول، وبذلك لم يكن لي دين سوى العقل والوجدان والضمير، ولا شيء من هذه الأصول الثلاثة يمنعني عن أن أكون لك، بل أنا ألقي نفسي على قدميك إذا كنت لا تجد السعادة في سوى ذلك.
وبعد، أفليس أبقى للحب وأصون للوداد وأحفظ للقلوب أن نبقى أرفع منزلة في الغرام وأعلى مقاما في العفاف من أن ننزل بهذا الحب الطاهر إلى حمأة الفساد وأدران الخسائس؟
ثم صمتت برهة وقد احمر وجهها كما يحمر الخد إذا أدني من النار، ثم قالت: إذا عرضت لك يوما فرصة خلوة ولوثة عشق فطلبت مني آخر برهان على الحب، فاعلم أن ذلك البرهان لا تكون به نهاية عفافي بل نهاية حياتي؛ لأنك حين تنزع طهارة قلبي تنزع معها أسباب حياتي، فتحسب أن بين يديك السعادة ثم لا تجد إلا خيالا ولا ترفع إلا جثة باردة.
ثم ساد السكوت بيننا ساعة، ثم تنهدت من أعماق قلبي، وقلت: لقد فهمت ما تريدين، وقد أقسم قلبي يمين العفاف قبل أن تأتي على آخر طلبه مني. وكأن هذا الجواب قد زاد سرورها فزاد جمالها وحنوها، وكأن الليل قد أطبق بظلامه والنجوم قد زهرت بأنوارها، وشمل السكوت حولنا فلم نعد نسمع هدير ريح ولا حفيف شجر كأن الطبيعة قد أصغت لتسمع ما يتناجى به قلبانا. ثم أخذ النوتية في بعض أناشيدهم المطربة فذكرني ذلك بصوت غصن البان حين كنت أسمعه على مقربة مني، فقلت لها: ألا تنعمين علي هذه الليلة الناعمة بصوت تلقينه على هذا الهواء والماء يترك لك فيهما أطيب ذكرى؟ ثم أشرت إلى النوتية فرفعوا مجاذيفهم من الماء، فتساقطت قطراته متتابعة على صفحات البحيرة بإيقاع أطيب من إيقاع النغم على دف الفتاة، ثم أخذت في إنشاد صوت شجي لم يمر على سمعي أطيب منه حتى خلت أنه صوت الملائكة في سمائها، وحتى صرت لا أسمعه من أحد بعدها إلا خرجت هاربا كمن ينفر من خيال، ولا أردت البكاء فغنيته إلا بكيت وأنا لا شيء يبكيني.
ولم نزل كذلك حتى رسونا على شاطئ إكس على بعد مرحلة منها، وقد تناصف الليل حتى لم نعد نجد ركوبة تنقل الفتاة في وعر تلك الطريق إلى منزلها، فعزم النوتية على أن يحملوها، وصنعوا من مجاذيفهم وحبالهم هودجا أجلسوها عليه، وسرنا معا على أحسن حال، ولقد حاولت في الطريق أن أنازع كلا منهم في حملها فلا يريدون، فسرت إلى جانبها ومددت يدي إليها لأثبتها على ذلك الهودج فلا يزعجها اهتزازه. وكنا نسير ونحن سكوت تحت القمر الساطع في تمامه بين أشجار الصفصاف، وقد وجدت المسافة على طولها قصيرة المدى كأن الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها، فاشتهيت لو أظل سائرا على مثل تلك الحال إلى آخر خطوة من حياتي.
Page inconnue