العليا وكلمة كفروا السفلى، فكثر أنصاره، وساد أهله، وقهر أهل الباطل وغلبوا، ومن هنا أخذت صفة الغربة نزول عن المسلمين.
ولكن سنة الله في خلقه لا بد أن تتحقق، فيقل المسلمون، ويهيمن أهل الباطل وتكون الغلبة لهم، فيأخذ الاسلام في الاغتراب والترحل، إلى أن يعود غريبا كما بدا.
والاسلام في وقتنا الحاضر هو أشد غربة منه في ابتدائه، حيث تنوعت الاسلام الغربة وصورها، وتعددت ألوانها واختلفت كثيرا عما قبل، مع كون أحكام الاسلام ومبادئه واضحة بارزة، إلا أن الحقيقة الاسلامية غريبة جدا، وأهلها غرباء بين الناس.
ومن وصف الغرباء أنهم يرتاحون إلى الخلوة، ويملون إلى الواحدة، ويستوحشون من جميع الناس فلا تطيب نفوسهم إلا بصحبة أمثالهم من الغرباء فإذا بهم ينعتون بالشذوذ تارة، لان الحق نهجهم، وبالمخالفة تارة أخرى، لان معظم الناس مالوا عن الحق.
وكيف لا يكون الغريب شاذا أو مخالفا بين قوم جعلوا المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وملكتهم أهواؤهم وشهوات نفوسهم، فهم لها عبيد؟ وكيف لا يكون الغريب شاذا، وقد هجر الدنيا ونبذها وراء ظهره، وزهد في متعها ولذائذها، ولم يلتفت إلا إلى ما يقربه إلى رضاء الله ورضوانه، وجعل دأبه حياة أخرى آمن بها وعمل لها، وسهر لأجلها حين نام الغافلون، فاستطاب مرارة الصبر في الدنيا واستعذبها، لأنه أيقن أن مذاق الآخرة أحلى وأطيب؟!، وهذا الكتاب الذي بين الدنيا وبما هان فيها، حيث ارتفعت أرواحهم فوق الدنيا فرأوها صغيرة لا تعدل جناح بعوضة، وكرمت أخلاقهم وسمت فصارت شبه نبوته.
Page 6