ووجدي يعلم كل العلم أنه يبقي زوجته معه ظلما وبهتانا وزورا واغتصابا.
استخزى وجدي وانسحب مثل قط جريح إلى حجرته واستلقى على الكرسي. «ماذا أنا صانع الآن؟ إن ترك البيت فضحني، وإن طلقتها فضحتني، وما أنا بمطلقها أبدا، وكيف أسمح لها أن تكون حرة وتتزوج غيري ويعرف الجميع أن وجدي الأسد الكاسر الذي دوخ الناس وأمر بالاعتداء على أعراضهم وكراماتهم وجسومهم، عاجز أن يكون مثل أضعف الرجال وأهونهم شأنا.»
فز عن كرسيه وسارع إلى غرفة صديق فوجده قد أعد حقيبته. - نعم هذا ما توقعته. لا، لا تفعل هذا. - لا أستطيع أن أبقى في البيت، لا يمكن. - سنرى، وإنما خروجك مستحيل. إلى أين تذهب؟ وماذا ستقول للناس؟ - أنت تعرف أنني لن أنطق حرفا. - فإذا خرجت فإنك غير محتاج أن تقول شيئا، سيقول الناس بالنيابة عنك كل شيء.
وجم صديق لا يدري ماذا يقول أو يفعل، الكلام الذي يقوله كافله واضح وصادق، وهو حريص على أن يظل هذا البيت الذي رعى شأنه من الطفولة الباكرة إلى الشباب نظيفا أمام الناس بعيدا عن كل شبهة، نقيا في سمعته شريفا في مظهره مهما يكن داخله عفنا شائها، وهو أشد حرصا ألا يكون هو سببا مباشرا أو غير مباشر فيما يجعل هذا البيت على ألسنة الناس تشنيعا وتجريحا وقذفا، ويقطع عليه وجدي تفكيره: أتحب أن تسافر إلى الخارج؟ - ماذا أصنع في الخارج؟ - تقضي الإجازة. - وبعد الإجازة؟ - بعد الإجازة تعود. - يا عمي وجدي أنا لن أعيش في هذا البيت أبدا بعد اليوم، ولو كان متاحا لي أن أسافر إلى الخارج لأتعلم لفعلت، ولكن هذا مستحيل.
وفي شبه حيرة وضياع يقول وجدي: لماذا مستحيل؟ - أنت أنفقت علي أكثر مما ينبغي، وليس معقولا أن أكلفك أيضا أن تنفق علي في الخارج. وأنت يا عمي وجدي في منصب سياسي، والمنصب السياسي قد يتغير بين يوم وليلة، فما مصيري إذا نقلت أنت من مكانك؟ سيصبح مستحيلا أن تواصل تعليمي؛ لأنك لن تستطيع أن ترسل لي مالا بالطريق المشروع، وستكون تحت العيون، ولن تستطيع أيضا أن تستعمل الطرق غير المشروعة. هذا من ناحيتك، ومن ناحيتي أنا لا أتصور أن أترك مصر أبدا؛ إن قدري أن أرتبط بمصر وأنا أعلم هذا كل العلم. - فماذا ترى إذن؟ أراك تعد حقائبك فإن ... أين كنت تنوي الذهاب؟ - إلى فندق. - قد يكون هذا حلا مؤقتا. - حل مؤقت لا شك. - أستأجر لك شقة. - أنا لن أكلفك بعد اليوم مليما، ولو أدى ذلك إلى أن أستجدي في الطرقات. - هل هذا معقول ؟ وكيف ستعيش إذن؟ ليس لك أحد على الإطلاق.
وقال صديق في نفسه: يعلم الله أن لي أبا لا يحب أحدا في حياته قدر حبه لي، ولي أم أنا كل أملها في الدنيا، ولي أيضا مع الأسف أخوان يريدان قتلي، ولكني لن أعود قبل أن يعرف الأخوان أنني في غنى عن مالهما.
ولو استطاع وجدي أن يسمع ذلك الحديث الذي انبثق في نفس صديق لكان له شأن آخر، ولكن من أين له أن يسمع؟ وعلا صوت صديق وهو يقول: لي الله. - ونعم بالله. - ولن يتركني. - نعم يا بني، ولكن الله يهيئ الأسباب، فماذا أنت صانع الآن؟
وصمت صديق وراح وجدي ينظر إليه منتظرا ما يقول، وفجأة رأى وجدي على وجه صديق نورا كأنما سكبته عليه السماء، ثم رأى إشراقة أمل. وقال صديق دون ريث انتظار: السجن. - ماذا؟ - ما سمعت. - ماذا تقول؟ - أنا الآن سأدخل الكلية، وكل ما أريده أن أتفرغ للمذاكرة حتى أتخرج بدرجة مشرفة، وأنت مشرف على السجن تستطيع أن تدخل فيه من تشاء، وإن الداخل إلى السجن لا يدري كم سيبقى. - أهذا معقول؟ - أعتزل العالم. - وإذا انتقلت أنا وتركت السجن؟ - أخرجني قبل أن تترك مكانك، ويفرجها المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك. - وماذا أقول لمن سيسأل عنك؟ - سافر يكمل تعليمه في الخارج. - وكيف ستذهب إلى الكلية. - هات لي الكتب ودع الباقي على الله وعلي.
سكت وجدي وراح يفكر في الأمر: الفكرة بالنسبة لي ممتازة؛ أولا أبعده عنها تماما فلا تحاول محاولتها الأثيمة مرة أخرى، وأخفي عنها أنه في السجن، وثانيا سيكون تحت رقابتي دون أن يدري أحد، ومن ناحيته سيذاكر ولن يشغله شيء عن المذاكرة، وأنا أستطيع أن أجعل السجن لينا بالنسبة إليه، وستكون صلته بي مباشرة وأستطيع أن ألبي جميع مطالبه، فيصبح سجينا غير سجين. الفكرة ممتازة.
وأعاده صديق من أفكاره المنفردة: ماذا قلت؟ - أكمل إعداد ملابسك.
Page inconnue