Nourriture des Esprits dans l'Explication du Poème des Manières
غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب
Maison d'édition
مؤسسة قرطبة
Numéro d'édition
الثانية
Année de publication
1414 AH
Lieu d'édition
مصر
Genres
Soufisme
وَقَالَ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: ١٩] وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْوَصْلَةِ وَالِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ. وَلَمَّا كَانَ الْقَلْبُ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ كَانَ أَشَدَّهَا ارْتِبَاطًا بِهِ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَأْمَنُهُ الْقَلْبُ عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ السَّمْعَ عَلَيْهِ، بَلْ إذَا ارْتَابَ مِنْ جِهَةٍ عَرَضَ مَا يَأْتِيهِ بِهِ عَلَى الْبَصَرِ لِيُزَكِّيَهُ أَوْ يَرُدَّهُ، فَالْبَصَرُ حَاكِمٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ.
قَالُوا: وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الْمُخْبَرُ كَالْمُعَايِنِ» وَلِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى بِأَنَّ قَوْمَهُ اُفْتُتِنُوا مِنْ بَعْدِهِ وَعَبَدُوا الْعِجْلَ فَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ مَا لَحِقَهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ وَمُعَايَنَتِهِ مِنْ إلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ وَكَسْرِهَا لِقُوَّةِ الْمُعَايَنَةِ عَلَى الْخَبَرِ. وَهَذَا إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ سَأَلَ رَبَّهُ يُرِيهِ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِخَبَرِ اللَّهِ لَهُ، وَلَكِنْ طَلَبَ أَفْضَلَ الْمَنَازِلِ وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ.
قَالُوا: وَلِلْيَقِينِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ، أَوَّلُهَا السَّمْعُ، وَثَانِيهَا الْعَيْنُ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعَيْنِ الْيَقِينِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَأَكْمَلُ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا.
قَالُوا: وَأَيْضًا فَالْبَصَرُ يُؤَدِّي إلَى الْقَلْبِ وَيُؤَدِّي عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ مِرْآةُ الْقَلْبِ يَظْهَرُ فِيهَا مَا يُحِبُّهُ مِنْ الْبُغْضِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَالسُّرُورِ وَالْحُزْنِ، وَأَمَّا الْأُذُنُ فَلَا تُؤَدِّي عَنْ الْقَلْبِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا مَرْتَبَتُهَا الْإِيصَالُ إلَيْهِ حَسْبُ، فَالْعَيْنُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِهِ.
قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ خَاصِّيَّةٌ فَضَلَ بِهَا الْآخَرَ، فَالْمُدْرَكُ بِالسَّمْعِ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَالْمُدْرَكُ بِالْبَصَرِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. فَالسَّمْعُ لَهُ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ، وَالْبَصَرُ لَهُ الظُّهُورُ وَالتَّمَامُ وَكَمَالُ الْإِدْرَاكِ.
وَأَمَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ فَشَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا النَّظَرُ إلَى اللَّهِ.
وَالثَّانِي: سَمَاعُ خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ بْنُ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي السُّنَّةِ وَغَيْرِهِ: كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ إذَا سَمِعُوهُ مِنْ الرَّحْمَنِ ﷿. قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَامَهُ عَلَيْهِمْ وَخِطَابَهُ لَهُمْ وَمُحَاضَرَتَهُ إيَّاهُمْ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ قَطُّ، وَلَا يَكُونُ أَطْيَبَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا. وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ فِي وَعِيدِ أَعْدَائِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ كَمَا يَذْكُرُ أَصْحَابُهُ عَنْهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ، فَكَلَامُهُ وَرُؤْيَتُهُ أَعْلَى نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
1 / 78