وقد كان عصر الغزالي من العصور التي تهيأت لعبقري وثاب من عباقرة الروح والإيمان؛ ليكافح تلك المادية الدنيوية الطاغية، وتلك المذاهب الفكرية التي تسبح في ضباب من الظنون والتخمينات، تدفع إلى الفروض والإباحية كما تدفع إلى الضلال والجحيم.
وجاء الغزالي فكأن الإسلام يستقبل به عصرا جديدا، واستمعت النفوس إلى ألحانه فكأنها تستمع إلى ألحان جديدة تهبط من هدي جديد.
جدد الغزالي للناس إيمان القلوب، ذلك الإيمان الصافي المتجه إلى إله يدركه العلماء والحكماء والعامة.
وبعث الغزالي في النفوس عقائد التوحيد الخالصة معطرة بعطر كأنها هبات الجنة ونفحات النعيم، وأضفى على التفكير الإسلامي نورا من المحبة والصفاء والاطمئنان، والتوجه إلى الله توجها كاملا لا تشوبه رذيلة من رذائل الفكر، ولا نقيصة من نقائص القلب، ولا جريمة من جرائم البدن، ولا سيئة من سيئات الأذى للناس.
كان تفكيره يلتمس هديه أبدا من السماء، وكانت أعماله مطبوعة أبدا بطابع الإيمان، وكانت دعوته صريحة واضحة لا جدل فيها ولا رياء، ولا تعقيد ولا التواء، وإنما إيمان بخالق واحد ما من نجوى بين المرء وقلبه إلى وهو شاهد عليها، ولا من همسة بين صديقين إلا وهو عليم بها، وما من جارحة من جوارح البدن تعمل عملا في ضحوة النهار أم في ستار من الليل إلا وهو شاهدها ومحاسب عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وهذا الميزان الدقيق لأمور الحياة هو دستور الغزالي، وهو عماد دعوته إلى الخير والهدى والسلام.
وتراث الغزالي ليس نزوة من نزوات النفس، ولا خاطرة من خواطر العقل، فيذهب بذهاب جيل ويفنى بمرور عصر من العصور، بل هو خلاصة جهاد القلب والعقل، ووحي الروح والإلهام، وفيض ونور من النبع الخفي، نبع العباقرة الأفذاذ.
يقول الدكتور زويمر: «كل باحث في تاريخ الإسلام يلتقي بأربعة من أولئك الفطاحل العظام وهم: محمد النبي، والبخاري، والأشعري، والغزالي.»
وتلك كلمة حق، فالغزالي بلا ريب أحد الذين شيدوا هيكل الفكر الإسلامي، وأقاموا دعائمه وأسسه على الهدى ودين الحق.
ولعل الغزالي أكبر أصحاب المذاهب الفكرية وأبعدهم أثرا في التوجيهات الإسلامية، ومرجع هذا تلك القوة الخفية الكامنة في شخصيته المهمة، والتي استحوذ بها على أذهان الجماهير في عصره والقرون المتتابعة.
Page inconnue