57

الغزالي أحد مشاكل الفكر في التاريخ الإسلامي، فقد عشقه أقوام حتى رفعوه مكانا عليا، لا ترقى إليه الشبهات ولا تناله النقدات، فنادوا به قطب العلوم الأكبر وحبر الأمة الأعظم، بل سموا به سموا كادوا يصلون به إلى العصمة، وأسدلوا عليه ستارا من الرهبة، وأطلقوا عليه شعاعا من النور الإلهي، حتى إنهم ليقرءون كتابه «إحياء العلوم» فيجعلونه أورادا للتبرك بعد القرآن والسنة.

وقالوا فيما قالوا: إن الصالحين منهم شاهدوا الرسول - صلوات الله عليه - في المنام يبارك الغزالي، ويعاقب خصومه، ويفاخر به أنبياء بني إسرائيل، وإن موسى - عليه السلام - قال له: إنك تقول إن علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما دليلك؟ قال: علي بروح الغزالي. فلما حضر قال له موسى: ما اسمك؟ قال: محمد بن محمد بن محمد الغزالي، قال: سألتك عن اسمك فلم ذكرت لي اسم أبيك وجدك؟

قال الغزالي: وأنت سألك ربك عما بيمينك فقلت: هذه عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى، وقد سألك عما بيمينك فقط. قالوا: فحاجه الغزالي.

ولا ريب في أن أنصاره أسرفوا وغالوا في الإسراف، كما أن خصومه قد أسرفوا وغالوا في الإسراف.

كان الغزالي يخطئ ويصيب، والشخصية الإنسانية الكاملة هي التي تخطئ وتصيب.

فلا يليق بالمغالين أن يغضبوا إذ قيل: إن الغزالي استقام تفكيره هنا ولم يستقم هناك؛ لأنهم يقدسونه ويجلونه عن الخطأ، وليس هكذا الإنسان.

والغزالي بعد، لسان من ألسنة الدين القوية، وحجة من حججه الباهرة، ومجاهد من أكبر مجاهديه، وقائد من أعظم الهداة في القافلة، ومفكر من أئمة رجال الفكر في تاريخ الفكر.

فلن نرضى من خصومه أن يسلبوه العلم أو الإيمان، ولن نرضى من خصومه أن يجردوه من المنطق والصواب، ولن نرضى من خصومه أن يهبطوا به إلى مناطق العامية والركاكة.

كان الرسول - صلوات الله عليه - يقول لعلي كرم الله وجهه: «هلك فيك رجلان؛ رجل غالى في محبتك، ورجل غالى في عداوتك.»

وما أصدق تلك الكلمة على الغزالي، فقد غالى قوم في محبته حتى جحدوا المنطق فأقاموا الهوى علما ومحجة، وغالى قوم في عداوته حتى فقدوا قداسة الإنصاف، فأضاعوا الحقيقة التاريخية، وشوهوا حقائق العلم والهدى.

Page inconnue