وقد حاول الإمام أبو الحسن الأشعري ذلك بالذات قبل الغزالي بمائتي سنة، كما حاوله ابن رشد كذلك بعد مائة سنة من رحيله، وكما فعل في عهدنا هذا «إسبرنجر» إذ أراد أن يدخل حياة جديدة على الإسلام في الهند فلم يوفق وعاد فاشلا، ونحسبه لم ينجح لأن المهمة كانت شاقة عصيبة عليه، أو لأنه لم يكن له من الإيمان والشخصية ما كان للغزالي من ذلك كله.»
ولا جدال في أن الغزالي - كما يقول ماكدولاند - قد انتصر بإيمانه وشخصيته، وما كان لرجل أن ينتصر في تلك المعركة إلا بإيمان لم يهن، بل يلهم وينتصر، وشخصية تحمل جيلها على الإجلال والإيمان.
دستور الغزالي الخلقي
الغزالي أكبر كاتب خلقي عرفه الفكر الإسلامي، بل لعله أكبر كتاب الأخلاق الدينية في العالم.
فقد جعل الأخلاق رسالته العليا، وربط الأخلاق بالدين رباطا لا انفصام له، بل جعل الأخلاق هي روح الدين، والغاية منه، وأضفى على العبادات أصولها وفروعها ألوانا خلقية تحببها إلى النفوس، وتعطرها في القلوب، وتملأ الحس خشوعا وإيمانا وجلالا.
فللصلاة آدابها التي هي الروح والهدف، وللصيام برنامجه الخلقي الذي لا يستقيم بدونه، وللنفس والقلب ولكل جارحة من الجوارح وخاطرة من الخواطر صفة خلقية، ودعوة إلى تطهير وتزكية، حتى همسات القلب ، وسوانح الفكر، يقيدها الغزالي وينظمها ويضع لها دستور الكمال.
وتساير أخلاقيات الغزالي الإنسان في مأكله ومشربه ومنامه وحله وترحاله، وتلازمه في تصرفاته مع الأصدقاء والأهل والزوج والولد والمجتمع والعالم.
فالأخلاق عند الغزالي شريعة شاملة للحياة بأسرها، شريعة لها مثلها العليا وأهدافها السامية المرتفعة إلى السماء، ثم هي أيضا تعيش معنا على الأرض متصلة اتصالا وثيقا بكل حركة من حركات الروح والقلب والعقل والبدن.
وقد عاب الماديون على الغزالي أن فلسفته الخلقية فلسفة سلبية لا تلائم الحياة العملية، ولا تصلح في معترك الحياة وزحام الوجود، ولا تعد صاحبها للكفاح والنضال والغلبة والسيادة.
عاب الماديون على الغزالي هذا، وكأنهم يريدون أن يسمعوا من الأخلاق رنين السيوف لا همسات السلام، وصيحات القتال لا نداء الرحمة والوئام.
Page inconnue