ويظنون بهذا أنهم قد أقنعوا أنفسهم وأقنعوا التاريخ معهم.
فلو تأملنا قليلا في كتبه التي كتبها في تلك الفترة لرأينا عجبا! لرأينا الغزالي المؤمن فيما يظهر، هو أكبر شاك فيما يبطن.
ومن يقرأ مقاصد الفلاسفة يلمح من بين سطوره أن الغزالي يكتب ليقنع نفسه؛ ولهذا فهو يجمع شتيتا من حجج الفلاسفة ويعرضها ويبسطها ويتلاعب ويفتن في تصويرها وتلوينها، وكأنه يتغزل فيها ويناغيها.
وقد عرف عنه هذا في ردوده على الباطنية؛ فقد عمد إلى توضيح مذاهبهم تمهيدا لمهاجمتهم، ولكنه كان في توضيح مبادئهم أكثر منهم أنفسهم بيانا وفصاحة وإغراء في عرض حججهم وإبراز قوة الإقناع فيها.
فلما هاجمهم لم يغن عنه هذا شيئا في اتهامه بالميل إليهم والمحبة لهم.
ومن يقرأ تهافت الفلاسفة يلمس أنه كتب أولا وقبل كل شيء ليرضي شكوكه، فهو يهاجم الفلسفة في عنف وفي حرارة، ويجمع في يديه جميع الأسلحة الفكرية التي يؤمن بها والتي لا يؤمن؛ ليحطم الفلسفة ومذاهبها ودعاتها، بل ليحقر من شأنها، ولينال من أفكارها وطرقها العقلية في إصرار وعناد.
ثم من يقرأ كتبه المعاصرة لهذا التاريخ يرى تباينا عجيبا في آرائه، فهو يهاجم الفلاسفة محتجا بآراء المعتزلة والأشعرية، ويهاجم المعتزلة محتجا بأهل السنة، ويهاجم رجال الفقه محتجا بالتصوف.
وإذن؛ فالغزالي عريق في الشك، أو على الأقل لم يهب نفسه لفكرة واحدة، ولم يستأثر بقلبه إيمان معين.
ولكن الغزالي امتاز بين المتشككين بأنه نشد الهداية في صدق وحرارة، وتلمسها راغبا حقا في الظفر بها، كان يشعر بحنين ملح إلى الاطمئنان واليقين، يطاول تلك الرغبة الملحة في الشك والجدل.
ومرجع هذا أن الغزالي كان يلتقي في قلبه خليط من شكوك عقله بخليط من إيمان قلبه؛ فقد كان عقله أدنى إلى عقول العلماء الذين لا يؤمنون إلا بالمنطق وحقائق الموازين العلمية، بينما كانت روحه أدنى إلى أرواح الزاهدين العابدين.
Page inconnue