فأعرض عنها كما أعرض عن العلوم التقليدية والفلسفية من قبل.
وظن أصدقاء الغزالي وأعداؤه معا أنه قد بلغ الغاية من السعادة؛ فقد حقق لنفسه منتهى آمال أمثاله من رجال الدين والتدريس.
فهو صديق الأمير وعالمه، كما يتولى التدريس في أكبر جامعة علميه في عصره، له فيها المكان المرموق والكلمة العالية، وأصبحت حلقات درسه ملتقى الأمراء والوزراء والعلماء، وغدت فتاويه أشبه بالفرمانات الملكية؛ حتى ليستأذنه الأخفيش في غزو الأندلس، كما يطلب فتواه في جواز توليته ملك الأندلس مع المغرب وتلقبه ب «أمير المؤمنين».
وفي هذا الجو الساحر الزاخر بمتع الحياة وسيادة الفكر، وبين تلك المكانة العليا التي غدت للغزالي في العالم الإسلامي من بغداد إلى تخوم الهند وسواحل المحيط الأطلسي، كان الغزالي يتعذب ويتألم، ويشقى شقاء لا يعرفه إلا العلماء، ولا يتصوره إلا رجال الفكر.
كان لهب الشك يحرقه في صمت، وكان تعطش روحه العميق إلى الإيمان يفسد عليه متع الحياة.
وكان الغزالي كثيرا ما يحاور نفسه ويجادلها، ويقلب أفكاره ويفندها، ويختلي بقلبه يسأله الإيمان بعد أن أضله العلم والعقل، فلا يسمع من قلبه جوابا، ولا يرى في حياته للأمل بابا.
وإذ به فجأة ينقطع عن الدرس والفتيا؛ وإذ به فجأة يلازم الفراش لغير علة واضحة، وإذ به يجافي الطعام، وينعقد لسانه عن الكلام، وإذ بقوة هضمه تبطل، وإذ به في حالة ذهول كامل حار فيها الأطباء، وعجز العلم عن توضيحها وتعليلها.
حتى إذا يئس طبيبه من أمر مرضه، قال: هذا أمر ينزل في القلب، ولا رجاء في حياته إذا لم يتغلب على مشاغل نفسه، ولم يخفف وطأة إجهاد ذهنه.
ولكن هذا المريض الفاقد للحركة وشهوة الطعام والكلام ينهض فجأة إلى الحج، ثم إذ به يعلن للدنيا اعتزاله التدريس ومظاهر الحياة وانقطاعه لعبادة الله.
أسباب عزلته بقلمه
Page inconnue