تلك هي صورة الغزالي العالم الباحث، وذلك هو الوجه الذي عرف به في نيسابور التي ارتبط فيها بصداقة روحية مع أستاذه إمام الحرمين، حتى رشحه ليقوم مقامه في التدريس.
ولكن أستاذه وصديقه لم يلبث أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ففارق الغزالي نيسابور حزين القلب والروح، فارق الغزالي نيسابور، وقد فقد الشعاع الروحي الأخير الذي كان يحبسه عن المغامرة الكاملة في الحياة، فارقها إلى بغداد؛ ينشد فيها مجد الدنيا ومتاع الروح، وليقارن فيها حظه بحظوظ العلماء والدارسين.
الغزالي ينشد متاع الحياة
كانت حياة الغزالي منذ شعاعها الأول حياة فكرية خالصة، حياة عازفة عن الجاه ومتاع الحياة، وكانت نهاية تلك المرحلة أيامه الأخيرة في نيسابور.
وها نحن أولاء نشاهده في طريقه إلى بغداد، يحدث نفسه بوداع حياة واستقبال أخرى، فهو لم يلق في حياته الأولى سوى عذاب فكري متلاحق، بل لم ينعم ولم يذق إلا مرارة المعارك والخصومات الحارة بأحقادها ومتاعبها، ولم يمتع إلا بلقيمات غير دسمة ولا سائغة.
فكر متوثب ملتهب لا يهدأ ولا يطمئن ولا يشعر بلذة اليقين، وعلم لم يكسب صاحبه ما يكسبه العلم لأهله في عهده من متاع الحياة ومباهج السيادة والحكم، فلم لا يقذف بكل هذا وجه الفضاء؟ وإذا كان هذا الفكر الملح في شكه، الملح في ثورته، الملح في تهكمه لا سبيل إلى إمتاعه وإرضائه، فإن قسوة الحياة يمكن أن تبدل بطيب المتاع وجمال المظهر، وعزة الاتصال بالولاة وما فوق الولاة من الأمراء والملوك.
وبغداد في ذلك التاريخ مهوى أفئدة رجال العلوم، ومهوى أفئدة طلاب المغامرة وعشاق المجد، وفي بغداد يسوس الملك مغامر عالم «نظام الملك» الذي ابتدع المدارس النظامية، وأسسها على علوم السنة ؛ لينافس بها أزهر الفاطميين، وليطاول بها علوم الشيعة التي تلقى في أزهرهم.
ومثل هذا الأمير في حاجة إلى عالم متفوق بارع في الجدل، بارع في الخصومة، بارع في دعم الحجج والبراهين براعته في نقض الحجج والبراهين.
والغزالي اللماح يدرك مطلب الأمير، ويدرك ما يمكن أن يظفر به لدى الأمير.
ولذا فقد اعتزم أن يكون مقدمه ضخما فخما لا ينسى، واعتزم أن يطلع الأمير في اللحظة الأولى على مقدار نبوغه وبراعته في الحوار والجدل، وتفوقه في المذاهب والنحل.
Page inconnue