إن شخصية مارك أنطوني الحقيقية لم تكن كما رسمها «شكسبير» في روايته «يوليوس قيصر»، بل كان أنطوني أشبه بالتلميذ الحدث كما قال عنه ربيان: «هو كالولد العظيم حقيق به أن يفتح العالم، ولكنه غير قادر على مقاومة أضعف امرأة.» وكان جميل الشكل، قوي الجسم، يعبده جنوده، ويحسده أعداؤه، وتعشقه النساء، كما كان بسيطا صريحا طيب القلب، بحيث تعرف كليوباترا كيف تؤثر على عواطفه؟
ولهذا استعدت لكي تمر في طريقه. كانت تطمع في عرش روما لابنها، وكانت على استعداد لأن تقدم لأنطوني مقابل ذلك جمالها وملك مصر؛ ولذا لما وصل أنطوني بجنده إلى طرسيس أقلعت كليوباترا من الإسكندرية في عرض البحر الأبيض وهي في أبهى حلل الجمال والإغراء.
ذهبت إليه في موكبها الملكي في القوارب ذات الشراع الحريرية، والمجاديف المطعمة بالفضة، والعبيد من نساء ورجال يحيطون بها، وكان الموسيقيون يعزفون على آلاتهم، والعود برائحته الجميلة يحترق أمام الملكة البديعة الجمال.
كانت كليوباترا قد قصدت أن تعرض هذه الأبهة. ورسا الموكب الملكي بطرسيس حين أوشك المساء أن يرخي سدوله. وفي اللحظة التي رسا فيها الموكب خرج أنطوني ليقابل ما هيأ له القدر، واستقبلته كليوباترا بترحاب عظيم، ودعته إلى مآدبها الفاخرة، فأكلا في الأطباق الذهبية المطعمة بالأحجار الكريمة.
ولما عاد الضيوف إلى أعلى السفينة اشتد إعجابهم حين تذوقوا طعم الخمر المصري، ورأوا المصابيح التي كانت تلقي عليهم أنوارها من بين فروع الأشجار متكاثفة فوق رءوسهم، وتمتعوا فوق ذلك بالحديث الطلي الذي كانت توجهه إليهم الملكة الصغيرة، وظلوا في سمر وسرور حتى نضب الخمر في الأباريق، وانطفأ الضوء في المصابيح.
لهو الإسكندرية
انغمس أنطوني في اللهو والعبث بالإسكندرية.
وفي اليوم التالي تمكنت كليوباترا من أن تحصل من مارك أنطوني على كل ما كانت تريد، وانتهت من الاتفاقيات السياسية التي كنت ترغب في إبرامها مع روما، وعادت إلى مصر تحمل وعدا من أنطوني بأن يزورها في مصر، ووفى أنطوني بوعده وزارها في مصر سنة 41ق.م. وهو على علم بالثمن الذي سيدفعه لهذه الزيارة؛ إذ أصبح أسيرا في قبضة امرأة جميلة كما كان يوليوس قيصر من قبله.
وانغمس أنطوني في اللهو والعبث بالإسكندرية، وسلم نفسه لشيطان السرور الذي كان مستوليا إذ ذاك على «باريز القديمة». كانت حواسه قد خدعت بكل مظاهر الأبهة والعظمة التي أحاطته بها كليوباترا، فكانا يخرجان للصيد والنزهة في البحيرات معا، ويسيران في حدائق القصر جنبا إلى جنب، وكثيرا ما كانت تقف لتراقب ألعابه وقوته، كما استمرت المآدب الفخمة، ونمت بينهما علاقة حب متينة، وكان كل منهما يرغب في الآخر رغبة قوية؛ حتى إن كليوباترا سلمت نفسها إليه كأية امرأة عادية دون أي اعتبار لمركزها العظيم.
وأودعت كليوباترا في أنطوني تلك الآمال التي كانت أودعتها في الماضي في يوليوس، وأصبح كل أملها أن يصير أنطوني إمبراطور العالم وهي شريكته، على أن يليهما قيصرون.
Page inconnue