الجزء الأول: الأحوال العامة
1 - الاستعمار البريطاني
2 - السكان والأديان
3 - الديانة الهندوكية
4 - أصل الحركة الهندية
5 - الثقافة الإنجليزية في الهند
6 - المصلحون الدينيون
7 - الحكم الهندي في الهند
8 - الفقر والنجاسة
9 - المرأة الهندية
Page inconnue
الجزء الثاني: سياسية غاندي وفلسفته
10 - حياة غاندي
11 - التقاليد القاتلة
12 - نحن والحركة الغاندية
13 - النزعة الإنسانية في النهضات الوطنية
14 - غاندي والمدنية الحديثة
15 - غاندي والمرأة الهندية
16 - عزبة تولستوي
17 - صوم غاندي
18 - غاندي وفورد
Page inconnue
19 - ما لم يعرف عن غاندي
20 - غاندي والطعام
الجزء الثالث: مقالات بقلم غاندي
21 - إلى الإنجليز في الهند
22 - إلى نساء الهند
23 - التعليم في الهند
24 - مذهب السيف
25 - الخوف من الموت
26 - المنبوذون في الهند
27 - من غاندي إلى طاغور
Page inconnue
28 - لست قديسا ولست سياسيا
29 - بعض آراء غاندي
الجزء الأول: الأحوال العامة
1 - الاستعمار البريطاني
2 - السكان والأديان
3 - الديانة الهندوكية
4 - أصل الحركة الهندية
5 - الثقافة الإنجليزية في الهند
6 - المصلحون الدينيون
7 - الحكم الهندي في الهند
Page inconnue
8 - الفقر والنجاسة
9 - المرأة الهندية
الجزء الثاني: سياسية غاندي وفلسفته
10 - حياة غاندي
11 - التقاليد القاتلة
12 - نحن والحركة الغاندية
13 - النزعة الإنسانية في النهضات الوطنية
14 - غاندي والمدنية الحديثة
15 - غاندي والمرأة الهندية
16 - عزبة تولستوي
Page inconnue
17 - صوم غاندي
18 - غاندي وفورد
19 - ما لم يعرف عن غاندي
20 - غاندي والطعام
الجزء الثالث: مقالات بقلم غاندي
21 - إلى الإنجليز في الهند
22 - إلى نساء الهند
23 - التعليم في الهند
24 - مذهب السيف
25 - الخوف من الموت
Page inconnue
26 - المنبوذون في الهند
27 - من غاندي إلى طاغور
28 - لست قديسا ولست سياسيا
29 - بعض آراء غاندي
غاندي والحركة الهندية
غاندي والحركة الهندية
تأليف
سلامة موسى
الفاتحة
بقلم سلامة موسى
Page inconnue
هذا الكتاب ثلاثة أجزاء، يعالج الجزء الأول منه الأحوال العامة في الهند مع إشارات تاريخية موجزة. أما الثاني فيعالج سياسة غاندي وفلسفته. وفي الجزء الثالث نقلنا بعض مقالات كتبها غاندي ونشرت في المجلات الهندية.
ونحن في جهادنا للمبادئ الإمبراطورية البريطانية نشبه الهنود، وإن كانت أقدام الإنجليز في الهند أرسخ وتاريخهم أطول. ولهذا السبب نفسه يجب أن نستنير بحركتهم كما استناروا هم بحركتنا. فإن زعماءهم كثيرا ما ذكروا الاتحاد بين المسلمين والأقباط في مصر ودعوا أبناء أمتهم المسلمين والهندوكيين إلى مثله في الهند. وبالطبع يجب أن تختلف الأساليب في الكفاح وتتأثر بالبيئة الاجتماعية والاقتصادية ، ولكن هذا الاختلاف يسوده اتفاق بيننا وبين الهند في الغاية والمبادئ العامة.
وهذا الكتاب هو درس موجز للحركة الوطنية الهندية من ناحية غاندي، ولكن الحركة الوطنية الهندية أكبر من غاندي وإن كان هو أنضج ثمراتها وأبرز رجالها وأقربهم إلى قلوب الهنود.
وإني أكتب هذه الكلمات في الوقت الذي تقول فيه الأنباء التلغرافية إن غاندي يدعو إلى الكف عن العصيان المدني. ومن الناس من يفسر هذا الخبر بأن الزعيم الهندي قد أثبت على نفسه الفشل في الخطط التي اختارها وحض الناس على اتخاذها. ولكن هذا الخبر إن دل على شيء فهو يدل بلا شك على مرونة الذهن وكراهة الجمود. فإن غاندي لا يختط الخطط لكي يعبدها بل لكي يستخدمها، وهو يسارع إلى نبذها إذا تبين له فشلها. وسواء أنالت الهند استقلالها بما ابتكر لها غاندي أو بما أوحى إليها من الخطط والأساليب، فإن الذي لا يشك فيه إنسان أنه قد طبع الهند بطابعه وأثر في العالم أثرا لن يزول.
وقد التفت إلى النواحي الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية خاصة في حركة غاندي، وهي نواح لا نرى لها للأسف غير الأثر الضعيف في نهضتنا المصرية السياسية. وما زلت أرى أن كفاحنا للإنجليز يجب ألا يقتصر على السياسة وأن النهضة السياسية يجب أن تغذيها نهضات اجتماعية واقتصادية لكي نصل منها إلى التنبيه العام للأمة: للمرأة في بيتها، والفلاح في قريته، والصانع في مصنعه. بل يجب أن تكون لنهضتنا فلسفة كما هي الحال في النهضة الهندية أو التركية.
لقد أحدث غاندي نهضة بين نساء الهند اللائي دعاهن إلى السفور والمغزل، كما أنه كافح تقاليد بلاده التي تهين خمسين مليونا من الهنود وتعدهم منبوذين، ولم يبال أحيانا ترك الميدان السياسي لكي يكافح في الميدان الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك فعل مصطفى كمال الذي حارب تقاليد بلاده السيئة ودعا الأتراك إلى الانسلاخ من الشرق والانضمام إلى الغرب، واتخاذ الحضارة الحديثة، حتى لقد عني بما يبدو لنا أنه من الصغائر، كاتخاذ القبعة وتعليم الشبان والفتيان رقص المخاصرة.
إن السياسة هي بعض الاجتماع وليس العكس صحيحا، ولذلك يجب أن نجعل غايتنا انقلابا اجتماعيا عاما، يتناول تحرير المرأة وتعليمها للصناعات المختلفة كالرجل سواء. كما يتناول إصلاح الريف ورفع شأن الفلاح حتى يعيش عيشة المتمدنين، يهيأ بيته بالمراحيض الصحية والأثاث النظيف والمصابيح الكهربائية، وله من دخله ما يكفيه لأن يأكل الأطعمة الكافية ويقرأ الصحف ويقتني الكتب ونحو ذلك مما هو حق لكل متمدن. كما أن الوطنية الاقتصادية يجب أن تكون - كما هي في الهند وتركيا - ضمن نهضتنا، بل مراسا نتمرس به حتى قبل تحقيق استقلالنا السياسي. كما يجب أن تتجه نهضتنا نحو مبادئ الحضارة الغربية الحديثة وليس نحو الحضارة الشرقية البالية البائدة.
وبهذه الكلمات أقدم هذا الكتاب.
الجزء
الأحوال العامة
Page inconnue
الفصل الأول
الاستعمار البريطاني
يرجع الاستعمار البريطاني إلى التنبه التجاري الذي أعقب المكتشفات الجغرافية التي قام بها الإسبان والبرتغاليون، فإن كلا من فرنسا وهولندا وبريطانيا قامت تنتفع بهذه المكتشفات في نشر تجارتها في الشرق، فلما كانت أواسط القرن الثامن عشر كانت «شركة الهند الشرقية» قد استولت على ممتلكات ومصانع كبيرة في الهند، وأقامت عليها الحصون، وصارت تجند الجيوش لحماية ممتلكاتها وتتدخل في شئون الإمارات الهندية. وما إن وافت سنة 1857 حتى كان في يد الإنجليز نحو ثلثي الهند، تحت حكمهم المباشر، إما عن طريق هذه الشركة وإما عن طريق الحكام الذين تعينهم بريطانيا.
وهذه الشركة، كما هو واضح من اسمها، هيئة تجارية، ولكنها اقتنت الأسلحة ونظمت الجيوش واستغلت الانحطاط الشرقي في الهند، وخاصة انحطاط الأمراء، حتى أصبحت وكأنها دولة كبرى. ومن هذا الأصل نفهم الباعث الاقتصادي للاستعمار البريطاني.
وحدثت ثورة الهنود سنة 1857 فأخمدها الإنجليز. ومن ذلك الوقت ألغيت الشركة وأصبح الحكم يتولاه «نائب الملك» المسئول أمام البرلمان البريطاني. ولا يستطيع الإنسان أن يقول ماذا كان يحدث لو لم تستول بريطانيا على الهند، فقد كان يمكن أن تكون الهند الآن أمة متحدة متقدمة مثل اليابان، كما كان يمكن أن تكون أيضا أمة رجعية متناحرة مثل الصين (قبل نهضتها الأخيرة)، فإن الإنجليز لم يستطيعوا بسط سلطانهم على الهند إلا للانحطاط البالغ الذي انحدر إليه الهنود.
وقد انتفع الهنود كما استضروا بالحكم الإنجليزي، وإن كان الضرر أكبر من النفع. فإن الإنجليز أبطلوا إحراق الأرامل، لأن الأرملة الهندوكية كانت تحرق عقب وفاة زوجها كما أنهم أبطلوا وأد البنات، فإن الهنود مثل جميع الشرقيين، يكبرون من شأن الذكر ويحطون بقدر الأنثى، وكان وأد البنات شائعا في الهند، كما لا يزال في الصين، وكما كان عند العرب في الجاهلية. وقد منع الإنجليز هذا الوأد فهو لا يمارس الآن إلا خفية ومع التعرض للعقوبة عندما تعرف الحقيقة.
وأكبر فضل للإنجليز على الهند أنهم أدخلوا الثقافة الغربية الحديثة، فإن الهنود كافة كانوا يدرسون الثقافة الشرقية، وهي تقاليد في العقائد والتاريخ والأخلاق، بل حتى في العلوم. فلما كان «ماكولي» الأديب الإنجليزي المعروف في الهند سنة 1835 يؤدي وظيفة المستشار لشركة الهند الشرقية، رأى أن يوجه شباب الهند وجهة الحضارة الحديثة بأن يعلمهم اللغة الإنجليزية، فكتب تقريرا يقول فيه إنه «يجب جعل الإنجليزية وسيلة التعلم، حتى تنشأ في الهند طبقة هندية في اللون والدم ولكنها إنجليزية في الآراء والأخلاق والذهن».
وغاندي يحارب الآن التعليم باللغة الإنجليزية ويطلب أن يكون باللغة الهندية، وهو محق في ذلك. ولكن لولا هذه الطبقة التي تثقفت بالثقافة الإنجليزية لما بلغت الحركة الوطنية مبلغها الحاضر، فإن ثقافة الهند لم تكن تعرف الوطنية كما نفهمها، كما لم تكن تعرف الحضارة الحديثة. أما الآن، وبعد أن تكونت هذه الطبقة، فلا خوف من التعليم باللغة الهندية، لأن الإيمان بالثقافة الحديثة قد تم، ولا خوف هناك من الرجوع إلى الثقافة الهندية التقليدية ومقاطعة الثقافة الحديثة.
وقد أضر الإنجليز الهنود بحصرهم التعليم في طبقة صغيرة، وهي كما يقول أحد الإنجليز: «أقلية مكرسكوبية». فإنهم كانوا، وما زالوا، ينفقون ملايين الجنيهات على الجيش، وعلى مرتبات الموظفين الإنجليز، في حين كانت ميزانية التعليم على الدوام ضئيلة. فإن متوسط ما تنفقه حكومة الهند على التعليم العام لا يزيد على أربعة مليمات لكل شخص في العام.
وأضروهم أيضا بقتل صناعاتهم. بل هناك ما يؤيد القائلين بأن الإنجليز باشروا بأنفسهم، وبطرق هي غاية في النذالة والخسة والتوحش، قتل الصناعات الهندية؛ لكي يبيعوا للشعب الهندي مصنوعات إنجلترا. وهم من هذه الناحية كانوا سببا مباشرا للفاقة العظيمة في الهند وللمجاعات التي تكتسح البلاد من وقت لآخر.
Page inconnue
فإذا أضفت إلى ذلك تلك الخصال السيئة التي تتفشى في بعض الأفراد من الطبقة العالية في الأمة، لوجود الحاكم الأجنبي فيها، وكيف يستحيل الرجل الشريف إلى جاسوس على أهله ووطنه، وإذا أضفت أيضا ما تفعله السيطرة الأجنبية من إيحاء روح الذل في سائر أفراد الأمة، عرف أنه ليس في الاستعمار أو السيطرة الأجنبية شيء من الفضائل يعادل الرذائل التي يفشيها.
الفصل الثاني
السكان والأديان
يدل آخر إحصاء نشر عن الهند (وقد تم سنة 1931) على أن السكان يبلغون 353 مليونا، وهذا بإضافة بورما واستثناء سيلان. ويبلغ عدد اللغات في الهند 225 منها 27 لغة آرية الأصل، مثل اللغات الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية. ويتكلم هذه اللغات 227 مليون هندي. وهناك 14 لغة درويدية يتكلم بها 72 مليونا و156 مغولية يتكلم بها 15 مليونا. وقد يستغرب القارئ هذا الرقم الأخير، ولكن هذا الاستغراب يزول إذا عرف أن المتكلمين لهذه اللغات يعيشون في الجبال. فهم بذلك ينقطعون جماعات صغيرة، ويصعب الانتقال أو الاتصال بينهم، فتحتفظ كل جماعة بلغتها مهما كان عدد أفرادها صغيرا.
وتنقسم الهند من حيث الأديان إلى ما يأتي:
239 مليون هندوكي بما فيهم المنبوذون.
77 مليون مسلم.
13 مليون بوذي (معظمهم في بورما).
4,5 مليون سيخ.
4,5 مليون مسيحي.
Page inconnue
مليون وربع جاينيون.
وهذا غير ثمانية ملايين لا يزالون في طور القبيلة يعيشون في التلال ويجهلون الزراعة، وهم عندما يتحضرون يعتنقون الهندوكية في الغالب. ومعظم المسلمين في الشمال، وهم أضخم أجساما من الهندوكيين لأن الدم المغولي يجري في عروقهم. وبدخول الإسلام في الهند انقرضت البوذية حتى لم يعد يؤمن بها غير سكان بورما. والهندوكي يسرع إلى قبول الحضارة الأوربية كما يسرع إلى اتخاذ الأعمال الحرة. ومن الهندوكيين الآن عدد من الأغنياء أصحاب المصانع لغزل القطن ونسجه ومنهم من يملك الملايين من الجنيهات . أما المسلمون فلا يزالون متمسكين بشرقيتهم، وعندهم كبرياء يمنعهم من احتراف الأعمال الحرة. فقد كانوا عند دخول الإنجليز للهند سادة البلاد، يتولون الحكم ولهم الجيش. فلما نزع ذلك منهم لم يستطيعوا أن يخضعوا أنفسهم للظروف الجديدة وبقوا يلتزمون أنفتهم ويرفضون التكسب بالعمل الحر الذي لم تسبق لهم به ألفة. أما الهندوكيين فلم ينقص الاحتلال الإنجليزي شيئا من حقوقهم السابقة، إذ لم تكن المناصب العليا في أيديهم، وكان لهم مران قديم بالأعمال الحرة، وفي كل قرية مراب منهم يقرض الفلاحين ويجعلهم تحت سلطانه.
وعلاقة الهندوكيين بالمسلمين ليست حسنة على وجه العموم، فإن الهندوكي ينظر إلى المسلم نظرته إلى الغريب الذي غزا بلاده وقهرها واستخلص لنفسه أحسن بقاعها وأكثرها خيرات. والمسلم يخشى اتحاد الهند واستقلالها، لأنه يشعر أن المسلمين أقلية لا يمكن أن يسمع صوتهم إذا اتحدت الهند في برلمان واحد، وأن الأكثرية الهندوكية سوف تستبد بهم. وقد أحدث غاندي تآلفا بين الطبقتين، وجعل المستنيرين منهم يدا واحدة في طلب الاستقلال، ولكن العامة من الطائفتين لا تزال تنظر إحداهما إلى الأخرى نظرة العداوة.
وهذا الخلاف القائم بينهما يستغله الاستعمار البريطاني، فإن الجنود الإنجليزية هي التي تهدئ الشعب وتقف القتال بين الفريقين. ومن هنا يعتمد عليها الفريق المغلوب للاحتماء بها.
والبوذية دين نشأ في الهند في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت قد أضعفت الهندوكية وكشفت عن مساوئها في الإغراق في الشعائر والمناسك. ولم تكن تؤمن بالآلهة أو الكهنة أو المناسك. وكانت تدعو إلى أن الدين هو اختبار شخصي لا يأتي بوحي وإنما ينتج عن التفكير والتأمل. وقد طهرت الهندوكية من كثير من مساوئها، ولكنها لم تستطع الثبات أما الإسلام. ويبلغ المؤمنون بها في العالم الآن نحو 300 مليون ليس منهم غير عدد قليل جدا في الهند، وأكثرهم في الصين واليابان والأقطار الجنوبية الشرقية من آسيا. والبوذية هي أقرب الأديان القديمة إلى ما يفهم هذه الأيام من معنى «البشرية» التي يدعو إليها رجال الذهن في أوروبا وأمريكا.
وترجع الديانة السيخية إلى القرن السادس عشر ، وكان مؤسسها «ناناك» الذي مات سنة 1530، وكان ينشد توحيد الإسلام والهندوكية في دين واحد، وقد أخذ من الإسلام الإيمان بإله واحد، ومن الهندوكية تقمص الأرواح، جحد الأوثان وإلغاء الكهنة والطبقات، مع الدعوة إلى الفضائل العملية كالنزاهة والعدل والأمانة، والسيخيون مثل الوهابيين يقاطعون الدخان، ولكنهم مع ذلك يتسامحون في الخمر.
أما الجاينية فمذهب من الهندوكية يقرب من البوذية. والجاينيون لا يؤمنون بالكتب المقدسة التي يقول بها البراهمة، وآلهتهم إنسانية، فهي أقرب إلى القديسين منها إلى الآلهة. وهم يتوقون قتل الحيوان ولو كان حشرة، وليس بينهم طبقات. •••
يطبع الدين الأمة بمزاج خاص. والمزاج الهندي الذي تربى بالهندوكية والبوذية ينحو نحو النسك، ولذلك يكثر في الهندي الناسكون والمتصوفون وأهل الطريقة و«الفقراء». والفاقة العامة في الهند تساعد على هذه النزعة التي يدعو إليها الدين.
الفصل الثالث
الديانة الهندوكية
Page inconnue
كانت الديانة الهندوكية شؤما على الهنود، فإنها أذلتهم أكثر مما أذلهم الإنجليز، وأقامت لهم نظاما اجتماعيا جامدا لا يمكن تنقيحه إلا بمخالفة الدين. ويرجع هذا الدين إلى حوالي سنة 700 قبل الميلاد وله كتب مقدسة وآلهة وصوفية لا تختلف كثيرا من الصوفيات التي تفشت في جميع الأديان الأخرى إلا من حيث الإيمان الراسخ بالتقمص.
ولكن محور الهندوكية ليس صوفيا أو لاهوتيا وإنما هو اجتماعي. فإن الهندوكي يطلب منه، قبل كل شيء، الإيمان بانفصال الطبقات وقدسية البراهمة أو الكهنة. والهندوكية هي أبعد الأديان عن الديمقراطية، وبدلا من أن تعمل للمساواة بين البشر، كما هو الشأن في المسيحية أو الإسلام، تفصل الأمة أربع طبقات هي: (1)
طبقة البراهمة أي الكهنة. (2)
طبقة الكشائرية أي رجال الحرب. (3)
طبقة الفايسية أي رجال التجارة. (4)
طبقة السودرا أي الفلاحين.
ويقول المؤرخون في أصل هذه الطبقات إن الآريين الذي أغاروا على الهند قبل نحو 3000 سنة أو أكثر كانوا بيض الوجوه، فخافوا الاختلاط بالسكان الأصليين وأسسوا نظام الطبقات هذا لكي يمنعوا التزاوج بينهم وبين هؤلاء السكان. على نحو ما نجد في الولايات المتحدة الآن حيث الكراهية شديدة عند البيض للسود، وقد خصوا السكان الأصليين بالمهن الحقيرة مثل فلاحة الأرض. ثم أخذت هذه الطبقات الأربع تنقسم وتتفرع حتى أصبح الآن في الهند نحو 2500 طبقة، أدونها طبقة المنبوذين وهم من السودرا، وأعلاها طبقة البراهمة أي الكهنة. ولكن إذا كان في هذا التحليل التاريخي شيء من الصحة فإن الواقع المشاهد الآن يثبت أن الهنود جميعهم يمتازون بسحنة واحدة، سواء منهم البراهمة أو المنبوذون. وهذا يدل على اختلاط الدم على الرغم من التحريم الذي نصت عليه الهندوكية.
والبرهمي يمتاز بامتيازات خاصة، فإنه لا يجوز الزواج أو الدفن أو القيام بأي احتفال إلا إذا كان ذلك بواسطته. وعندما يرتكب الهندوكي ذنبا فإن عليه أن يكفر بإطعام البراهمة وتقديم القرابين لمعابدهم.
والهندوكيون على وجه عام لا يأكلون اللحم كثيرا، وهم يحجمون عنه لأن الصوفية، وليس الديانة الهندوكية، تجعل الإنسان والحيوان واحدا، وتقول بالتقمص. وهناك طوائف لا تذوق اللحم بتاتا، ومن هؤلاء الطائفة التي ينتمي إليها غاندي. ولكن جميع الهندوكيين يقدسون البقرة ولا يذبحونها. فإذا شاخت تركوها حتى تموت حتف أنفها، أو حتى يفترسها وحش في الحقل. وكثير من الشقاق بين المسلمين والهندوكيين يعود إلى ذبح المسلمين للبقرة التي يقدسها الهندوكي ويتبرك ببولها. ويحكى عن أمير هندوكي حضرته الوفاة فطلب أن تحمل له بقرة إلى جنب سريره لكي يمسك بذنبها حتى يموت، وتم له ذلك.
وقد أدى تقسيم الأمة إلى طبقات أن صارت المهن وراثية، وانتهى هذا التقسيم إلى نظام اقتصادي جامد. فإن المنبوذين الذين يبلغون نحو خمسين مليونا يحترفون كسح الكنف وكنس الشوارع والقليل من الزراعة، مع أنه لا يجوز لهم أن يمتلكوا أرضا. والمنبوذ هو والمرأة سواء في الديانة الهندوكية من حيث حرمانهما من الميراث.
Page inconnue
ومهما قيل عن نكبات الاستعمار البريطاني فإنها ليست شيئا في جنب هذا الاستعمار الهندوكي للذهن والروح والاجتماع في الهند. والمتأمل لهذا الدين لا يرى فيه غير نظام غايته خدمة البراهمة وتعبئة الأمة جميعها لهذه الخدمة. وهو يتغلغل في البيت ويعين العلاقة بين الزوج وزوجته والأب وابنه، بل أحيانا يعين الحرفة التي يجب على الفرد أن يحترفها ، ويمسح على البغاء مسحة قدسية دينية حتى ليهيئ الأب ابنته للفجور وهو يظن أنه يخدم بذلك الآلهة. ومن هنا هذه الثورة التي تراها من غاندي على ديانة آبائه وتقاليدهم.
والهند حافلة بالمعابد والبراهمة والآلهة، والهندوكيون يؤمنون بإله واحد تتعدد صوره في الأصنام ويتوحد جوهره، ولهم «ثالوث» مؤلف من الأرباب: براهما وفشنو وسيفا. وقد ظهر مصلحون لهذه الديانة، ولكنهم يصطدمون بعقبات كبرى، لأن الهندوكية أصبحت جزءا لا ينفصل من الاجتماع الهندي. فالإصلاح هناك لا يحتاج إلى تنقيح عقيدة تتناول النفس فقط، وإنما يحتاج إلى تنقيحات اقتصادية تتناول الحرفة وحقوق الميراث ومركز المرأة ونحو ذلك مما يدل على صعوبة التنقيح.
الفصل الرابع
أصل الحركة الهندية
ترجع الحركة الهندية في الهند إلى التنبه التدريجي الذي كان يتفشى بين الهنود كلما توغل الإنجليز في بلادهم وجعلوا سلطانهم يتسلط على مرافقهم. ولكن قطرا كالهند، تختلف لغاته ودياناته، ويتألف من طبقات متضادة، يحتاج إلى هزات عنيفة كي يعمه التنبه، وقد حدثت هذه الهزات.
وترجع الحركة الحديثة في ميلادها إلى خطأ الإنجليز في فهم السيكلوجية الهندية واستغلال الوطني «بانرجي» لهذا الخطأ. فقد حدث في سنة 1905 أن قسموا إقليم بنغال قسمين، فهب بانرجي يحرك الهنود وينبههم إلى أن هذه القسمة هي تدنيس للوطن. ويجب على القارئ المصري ألا يخطئ ويقابل بين قسمة إدارية تحدث في مثل مديرية الغربية وبين قسمة بنغال. فإن هذا الإقليم الهندي يحتوي من السكان نحو خمسين مليونا، وهو قطر عظيم له تاريخه ولغته وتقاليده، فقسمته أشبه بقسمة القطر المصري منها بقسمة مديرية الغربية.
واستطاع بانرجي أن يجعل الهنود يهبون متحدين للمطالبة بإعادة بنغال إلى ما كان عليه، واضطرت الحكومة البريطانية إلى الإذعان، فوحدته سنة 1911 وألغت القسمة، ولكن الحركة الوطنية لم تخمد من ذلك الوقت. فإن بانرجي الذي يقال أنه عرف جمال الدين الأفغاني، كما عرفه عرابي ومحمد عبده، أخذ يؤجج نار الحركة الوطنية جاعلا من تقسيم بنغال سببا لدعوة الهنود إلى الاتحاد والحكم الذاتي.
هذا هو السبب القريب المباشر للحركة الوطنية، ولكن هذا لا يعني أن الهنود كانوا سنة 1905 مستسلمين للسلطان الإنجليزي، فإنهم منذ أن كان اللورد دوفرين نائبا للملك في الهند (1984-1898) ألفوا «المؤتمر الوطني الهندي» الذي لا يزال حيا إلى الآن. والحكومة البريطانية تحاربه كما تحارب عندنا الوفد. وقد منعت انعقاده منذ العام الماضي وصادرت أمواله. وهذا «المؤتمر» يغذو الحركة الوطنية وينظمها وله فيها أثر التجديد المتوالي.
وقد كان بانرجي أستاذا للآداب الإنجليزية في جامعة كلكوتا، وانتخب رئيسا «للمؤتمر الوطني الهندي» مرتين.
ومن الزعماء الذين خدموا الحركة الهندية «طيلاك» الذي مات سنة 1920، فإنه أنشأ جريدتين، إحداهما بالإنجليزية والأخرى بالهندستانية، لتنبيه الهنود إلى ما تنزلهم به الإمبراطورية البريطانية من ضروب الخسف والهوان. وكان مثل غاندي لا يقول بالعنف. ولكن من شأن العنف أن يسير في أثر هؤلاء الوطنيين الذين يجحدونه، وقد حكم عليه بالحبس عاما، ثم حكم عليه سنة 1908 بالنفي ست سنوات.
Page inconnue
ومن الوطنيين المعتدلين «جوكيل» الذي مات سنة 1915، فإنه كان يدعو إلى الحكم الذاتي مع البقاء في دائرة الإمبراطورية، ولذلك لم يتعرض للحبس أو النفي كما تعرض لهما سائر الوطنيين.
ولا يمكن أن ينسى اسم «محمد علي» عند ذكر خلاصة موجزة عن الحركة الهندية، فإنه خدم الحركة في إخلاص وأمانة وكان على الدوام يساعد غاندي ويدعو للاستقلال. ولكن أخاه «شوكت علي» انفصل بعد وفاة أخيه من الحركة وأخذ يدعو لاستقلال المسلمين وانفصالهم عن الهندوكيين، مع أن هذا الرجل أعرف الوطنيين الهنود بفائدة الاتحاد بين المسلمين والأقباط في مصر. وقد زار مصر مرات ورأى بعينيه قيمة هذا الاتحاد.
وقد بقيت الحركة الهندية، وهي لا تلفت الأنظار في العالم المتمدن إلا قليلا، إلى أن سطع فيها غاندي. فإنه أكسبها من المبادئ، وعين لها من الخطط، ما جعل العالم يلتفت إليه نبيا قبل أن يرى فيه وطنيا! ولكن أعظم ما خدم الحركة الوطنية هو «فضيحة أمريتسار» التي جن فيها الجنرال داير الإنجليزي فجمع الهنود في ميدان ثم أطلق عليهم النار، فقتلهم قتلا ذريعا. ثم أمر جميع من يمر فيه من الهنود بأن يزحف على ركبتيه. وكل هذا لأن بعض السكان في هذه المدينة قتلوا بعض النساء الإنجليزيات. وكانت هذه الحادثة في الهند بمثابة دنشواي في مصر، إذ انعقدت القلوب على كراهة الإنجليز من ذلك الوقت.
وزاد في الكراهة أن الحكومة الإنجليزية حين عاقبت هذا الجنرال أبى الإنجليز المقيمون في الهند إلا تكريمه، فأهدوا إليه سيفا من الذهب، فكان هذا التحدي الوقح للأمة الهندية سبيلا إلى اتحادها وإلحاحها في الاستقلال.
الفصل الخامس
الثقافة الإنجليزية في الهند
إذ كان الإنجليز قد نكبوا الهنود بالاستعمار فإنهم قد أسدوا إليهم أعظم الفضل بتعليمهم اللغة الإنجليزية التي فتحت لهم باب الثقافة الإنجليزية الواسع. وهذه الثقافة هي العلاج الحقيقي للاستعمار، لأنها تحتوي على بذرة الحرية التي لا يمكن الاستعمار أن يقتلها. ويمكن الناقد المنصف أن يقول (بعد أن يعدد المظالم الكثيرة التي أوقعها الاستعمار البريطاني بالهند) إن النهضة الهندية الحاضرة إنما تعزى إلى هذه الثقافة الإنجليزية العجيبة، وإن غاندي هو ثمرة هذه الثقافة التي لا يستطيع بها إلا أن يثور في وجه الظلم.
لما وصل الإنجليز إلى الهند كان الهنود - وخاصة الهندوكيين - في ظلام دامس، قد تحجرت تقاليدهم. يقتلون أراملهم ويخضعون لبراهمتهم وراجواتهم، لا يدرسون غير السخف الذي تراكم من العقائد الهندوكية. وكانت البوذية قد انمحت من الهند وطوردت إلى الحدود. وبقيت الحال على ذلك بعد استعمار الإنجليز للهند مدة طويلة إلى أن تعين الأديب الكبير «ماكولي» مستشارا للمجلس الأعلى في الهند سنة 1834، وهناك نسي هذا الأديب مصلحة الاستعمار وآثر عليها مصالح الذهن، فقرر أن يعلم الهنود تعليما عاليا باللغة الإنجليزية. ومن هذا الوقت انفتح أمام الهنود باب المدنية الغربية، وظهرت عندهم الدعوة إلى الحرية والمساواة وغرس الوطنية الهندية الذي يتعهده الآن تاجوري وغاندي ونهرو وغيرهم.
ونستطيع أن نجزم أنه لولا هذه الثقافة الإنجليزية لما ظهرت الدعوة إلى الحرية في الهند، ولما تجرأ رجل مثل غاندي على أن يقول بمساواة المنبوذين بسائر الهندوكيين. ولو كان الهنود يقتصرون في ثقافتهم على الآداب الشرقية لبقوا إلى الآن في خضوع أعمى لولاتهم الإنجليز، كما يخضعون لراجواتهم الهنود وبراهمتهم، ولعدوا أنفسهم منبوذين أمام الحاكم الإنجليزي كما يعد الأنجاس أنفسهم منبوذين أمام سائر الهنودوكيين.
ويجب ألا ننسى أن أنظمة الحكم الدستوري في العالم كله هي إحدى ثمرات الثقافة الإنجليزية، لأن الإنجليز هم الذين قرروا حق الشعب في أن يحكم نفسه. والتقاليد الدستورية هي جميعها تقاليد إنجليزية، وليس هناك ما يعيب الأمم التي نكبت بالاستعمار البريطاني أن تعترف لهذه الثقافة الإنجليزية بهذا الفضل.
Page inconnue
ومما يدعو إلى العجب أن ماكولي، الذي عمم اللغة الإنجليزية في التعليم في الهند، كان يسيء الظن بالهنود، حتى كاد يحسبهم غير جديرين بالرقي. ولكنه في هذا الاعتقاد السيئ، الذي بعثه في نفسه ما كان يرى من جمود الهنود، لم يكن يعرف مقدار التنبيه الذي تبعثه الثقافة الإنجليزية التي تمثل في عصرنا الحاضر أحسن ما كان في ثقافة الإغريق القدماء، وتزيد عليها جدا ورجولة.
والناس عندما يذكرون الحرية تلتفت أذهانهم إلى الثورة الفرنسية، مع أن بذرة هذه الثورة ترجع إلى إنجلترا، وقد دعا أحد دعاتها «فولتير» إلى الدستور الإنجليزي. وكان خطيبها «ميرابو» يدعو هذه الدعوة أيضا. وإذا كنا نحن نرى الآن في غاندي داعية مخلصا للحرية والإخاء والمساواة، فإن آباءنا في القرن الماضي كانوا يرون في «غلادستون» على الرغم من تعصبه الديني، هذا الداعية أيضا، بحيث يمكن أن نجد صلة روحية بين الاثنين.
الفصل السادس
المصلحون الدينيون
ليس غاندي أول المصلحين للهندوكية الداعين إلى تطهيرها مما علق بها من طبقات التقاليد الكثيفة، فقد ظهر في الهند دعاة للإصلاح قبل غاندي، وكثير من هؤلاء كانوا من البراهمة. فإننا نقرأ الآن عن اختلاط غاندي بالمنبوذين، ولكنه ليس مع ذلك الأول في الميدان، فمنذ سنوات عرف أحد البراهمة وهو «راما كرشنا» بمثل هذه الدعوة، وقد كنس بيتا لأحد المنبوذين، بشعر رأسه، لكي ينفي عنهم تهمة النجاسة. وفي سنة 1926 قتل زعيم من زعماء الهندوكية يدعى «شرادان»، كان يؤاكل المنبوذين ويعلمهم طرق المقاومة السلبية للهندوكيين المتعصبين، وهي الطرق التي دعا إليها غاندي جميع الهنود لمقاومة الإنجليز. وقد حدث في ملابار أن قصد إليها هذا الهندوكي المصلح يطلب للمنبوذين المساواة، وكانت التقاليد في هذه البلاد تقضي بألا يسير المنبوذون على الطرق العامة التي تسير عليها سائر الناس، فحضهم على العصيان، وصاروا يسيرون على الطرق العامة فيقبض عليهم ويحبسون، وبقوا على ذلك مدة طويلة إلى أن ألغيت هذه التقاليد في ملابار وانهزم الرجعيون.
وقد كان البراهمة - كما يعرف القارئ لكتاب كليلة ودمنة - سادة الهند وحكامها وكهنتها. ولكن دخول الإسلام في الهند زعزع سلطانهم، ثم جاء الإنجليز فأزالوه، فلم يبق لهم الآن سوى السلطان الروحي على الهندوكيين. وهذا السلطان نفسه قد فتح لهم أبوابا لزيادة الثروة والرقي، فإنهم اختصوا بالوزارات وتقلد المناصب العالية ودرسوا الآداب والطب وكانوا إلى وقت دخول الإنجليز يتولون إدارة البلاد ويتزعمون ثقافتها.
ولكن هذا السلطان لم يكونوا ليستطيعوا الاحتفاظ به لو لم تكن لهم أو لمعظمهم أخلاق صارمة. فإن قسما كبيرا منهم لا يذوق اللحم، وجميعهم بلا استثناء لا يذوقون الخمور، وقد ظهر بينهم قديسون عاشوا عيش الصلاح والتقشف والزهد. ومن هنا قوتهم أو بعض قوتهم. فإنه ليس من المعقول أن تستطيع طبقة الاحتفاظ بالسيادة آلاف الأعوام إذا لم تكن فيها صفات السيادة.
ومن المصلحين الذين يشار إليهم في الهند «سرسواتي». فإنه دعا إلى إهمال المناسك والشعائر والاقتصار على «الويدا» أي الكتاب المقدس، وطلب محو الطبقات والمذاهب. ولهذا المصلح شيعة يعد أفرادها بالملايين، وهم يخالطون المنبوذين كما يخالطون البراهمة، لا يعرفون فرقا بينهما. وهم يعلمون بناتهم ويجعلونهن يختلطن بالرجال ولا ينفصلن في حرم خاص بالمنزل.
وقد أسسوا مئات من المدارس التي تعيش بالتبرعات ولا تساعدها الحكومة بشيء من أموالها. وأرسلوا الرسالات التبشيرية إلى جميع أنحاء الهند، لمحو النجاسة وإلغاء الحجاب وتعليم المرأة وتطهير الهندوكية من الأساطير والمناسك والعودة بالدين إلى فطرته الأولى. وهم لا يعبدون الأصنام، ولا يسمون أنفسهم بشعار الطبقات، وقد استطاعوا بحركتهم هذه أن يصدوا حركات المبشرين من المسيحيين.
وشيعة سرسواتي هذه قد استطاعت أن تحارب التقاليد الهندوكية التي كانت تقول بإحراق الأرملة. فلما ألغت الحكومة الإنجليزية ذلك بقي عند الهنود احتقار الأرملة والتشاؤم من رؤيتها. ولكن جهود سرسواتي جعلت الأمة والحكومة معا تقبلان زواج الأرملة، وهذه معجزة في الهند.
Page inconnue
ولكن يجب ألا ننسى هنا أن أعظم عقبة في سبيل الإصلاح الاجتماعي أو الديني في الهند هي قيام حكومة أجنبية جعلت شعارها ألا تتدخل في الدين. وهي تجعل من تحايدها هذا حجة تحتج بها كلما وجه إليها لوم بشأن إهمالها للإصلاح الاجتماعي، لأنها تستطيع أن تقول إنه يمس الدين. وفي بلاد كالهند، يتداخل فيها الدين والاجتماع، لا بد من حكومة وطنية تستطيع أن تتحمل تبعة التدخل في الدين لكي تصلح الاجتماع. وإذا لم تكن الحركات التي قام بها هؤلاء المصلحون الهندوكيون، مثل غاندي أو سرسواتي أو راما كرشنا تؤتي ثمراتها فلأنهم جميعا لم يلقوا أية معاونة من الحكومة البريطانية.
الفصل السابع
الحكم الهندي في الهند
الهند قطر كبير، أشبه بالقارة منه بالقطر، يزيد سكانه على 350 مليونا. منهم نحو 300 مليون تحت حكم الإنجليز المباشر ونحو 50 مليونا تحت حكم الأمراء الهنود من الهندوكيين والمسلمين. ولكن هؤلاء الأمراء ليسوا مستقلين إلا استقلالا داخليا ولا يمكن لواحد منهم أن يحدث نفسه بمخالفة الإنجليز.
ويمكن أن يقال على وجه عام إن حكم البريطانيين خير من حكم هؤلاء الأمراء. فإن الأمير يجعل ميزانية الدولة ميزانية قصره، كما كان الشأن في أمراء الشرق في الأزمنة السالفة. والضرائب تجبى أحيانا على غير نظام، وعند الأمير أن يشتري الماسة، أو يبني قصرا أو يقتني النساء، خير من أن ينشئ مدرسة أو ملجأ أو مستشفى. ولذلك لا ينسى الهنود الوطنيون مثل نهرو أن يطلبوا إلغاء الإمارات الهندية كما يطلبون إلغاء حكومة الإمبراطورية.
ولسنا نعني أن جميع هؤلاء الأمراء ظلمة، فإن منهم العادل الوطني الذي تجري في عروقه دماء الهنود، وهو يطلب الاستقلال للهند بإخلاص وولاء، ومن هؤلاء مصلحون خدموا شعوبهم وأنفقوا أموالهم في إصلاحهم، ومن الأمراء المصلحين نظام حيدر أباد وأمير بارودا ومهراجة ميسور ومهراجة نبها. فإن هؤلاء الأربعة يعطفون على الحركة الوطنية في الهند ويصرحون بوجوب الاتحاد بين جميع الأقطار الهندية، وهم يعجبون بالوطنيين الهنود، حتى إن أمير بارودا دعا الوطني «بانرجي» لأن يكون رئيس وزارته. وكان هذا الوطني أول زعماء الحركة الوطنية الحاضرة حين ذهب يوقظ الهنود إلى الاستقلال بحجة أن الإنجليز قسموا إقليم بنغال قسمين. وقد رفض بانرجي هذا المركز السامي لاشتغاله بالحركة الوطنية في بنغال التي تأججت منها نار الوطنية في سائر أنحاء الهند. وقد كان «بوز» الذي اشترك في حركة بنغال مفتشا للتعليم في بارودا. ومن سنوات دعا مهراجة ميسور الزعيم غاندي لكي يكون ضيفا رسميا. وقد «طهر» نام حيدر أباد إدارات الدولة من الموظفين الإنجليز والأجانب وعين في مكانهم هنودا. ودارت مكاتبات بينه وبين نائب الملك بشأن هذا الموضوع.
ومن الأمراء الوطنيين أمير نبها، فإن الحكومة البريطانية عينته عضوا في «الجمعية التشريعية» فانضم إلى المعارضة وأصبح الصديق الحميم للوطني «جوكيل». ولم يغفر له الإنجليز هذا المسلك الذي سلكه وخيب به ظنها في الاعتماد على أمراء الهند لإذلال الهنود، فإنها أجبرته بعد ذلك على النزول عن العرش.
ويقول الإنجليز إن الأمراء شكوا إلى الحكومة البريطانية وأعربوا عن مخاوفهم إذا منحت الهند استقلالا داخليا ودستورا ديمقراطيا يضم بين الإمارات المستقلة والهند البريطانية. وهذا لا يستغرب من بعض الأمراء الذين نشئوا نشأة شرقية محضة جعلتهم يكرهون الشعوب التي يحكمونها، ويعتقدون أن الحكم لا يعني غير القصر والجواري والجواهر والفيلة. ولكن الأمراء الذين نشئوا نشأة أوربية وتعلموا في الجامعات الأوربية، وعرفوا السر في تأخر الهند وتقدم أوروبا، يحبون شعوبهم ويعملون للحكم الديمقراطي ويعطفون على الحركة الوطنية.
ويجب ألا ننسى أن قيام الحكم البريطاني إلى جنب هؤلاء الأمراء يفسدهم ويجعلهم يعتمدون على رعايته وحمايته أكثر مما يعتمدون على ولاء الشعب والحرص على حبه. فإذا كان بين هؤلاء الأمراء من يبدو في وطنيته نقص فإن هذا النقص أو بعضه يعزى إلى قيام الحكم الإنجليزي، وإذا زال هذا الحكم فإن من المحقق أن هؤلاء الأمراء يسرعون في الإصغاء إلى صوت شعوبهم.
وحتى مع التسليم بأن حكم الإنجليز أعدل من حكم الهنود يجب ألا ننسى أن نصف الميزانية ينفق على الجيش، وأن جزءا كبيرا منها أيضا ينفق في تسديد الأقساط للديون التي استدانتها الحكومة. وحملة أسهم هذه الديون من الإنجليز، وجميع المناصب العليا والمتوسطة في أيدي الإنجليز. ومع أن للهند البريطانية «جمعية تشريعية» فإن رأيها استشاري.
Page inconnue
الفصل الثامن
الفقر والنجاسة
النجاسة في الهند صفة المنبوذين ورثوها بحكم التقاليد. ولكن الفاقة العظيمة التي يعيش فيها هؤلاء المنبوذون تجعل نجاستهم حقيقية وليست دينية فقط. فإنهم يمنعون من امتلاك الأرض، ومن حفر الآبار للاستقاء، وعليهم يقع واجب نزح الكنف من المدن وحمل الزبالة. فإذا لم تلحقهم النجاسة من الدين فإنها تلحقهم من هذه الصناعات وأمثالها، ومن حرمانهم الذي يضطرهم إلى الاستقاء من البرك والمناقع.
ولو تحسنت الحال الاقتصادية في الهند واستطاع المنبوذون أن يعيشوا من إحدى الصناعات التي يكسبون منها أجورا عالية لكان في مقدورهم أن يستروا أجسامهم بملابس حسنة وأن يأكلوا الأطعمة المغذية ويسكنوا المنازل النظيفة. وفي مثل هذه الحال يكذب الواقع المأثور فلا تنسب إليهم النجاسة أو على الأقل يخف وقعها.
ولكن نكبة الهند هي الفقر، هذا الفقر الذي يجعل الأم تقتل وليدتها، ويجعل الجائع يخدر نفسه بالأفيون لكيلا يتضور من الجوع. وليس هذا الفقر شبيها في قطر آخر في العالم، وكثيرا ما تسوء الحال فيعم القحط جميع الريفيين ويموتون من المجاعة. وقد قال «جوكيل» الوطني الهندي: «يعيش في الهند نحو أربعين مليونا لا يحصل أحدهم على أكثر من وجبة واحدة في اليوم. ويقول السير تشارلس إليوت إن في الهند سبعين مليونا لا يتاح لأحدهم أن يشبع ولو مرة واحدة في العام.»
وقال المستر مونتاجو في إحدى خطبه سنة 1919: «هل منكم من يعرف أن وافدة الإنفلوانزا قد قتلت في العام الماضي نحو ستة ملايين شخص في الهند؟ أليس في هذا العدد العظيم ما يدل على علاقة هذه الوفيات بالفقر وضعف السكان عن المقاومة؟»
وكوخ الفلاح الهندي يدل على الفقر البالغ. فإنه يبنيه من الطين جدرانا أربعة ليس لها نوافذ أو باب ، وهو يبني خارج هذا الكوخ مصطبة يقعد عليها للاستراحة. وهو لا يعرف من الملابس غير وزرة يتسر بها عورته. وهو يكد في الزراعة بياض النهار وبعض الليل هو وزوجته وأولاده. وعليه أن يدفع للمالك نصف الناتج من الزراعة وعليه أن يؤدي ضريبة الملح للحكومة.
وإذا كانت هذه حال الفلاح فكيف تكون حال المنبوذ؟
وفي المدن الكبرى مثل بومباي يعيش العمال في فقر مرعب، فإن هناك مساكن متوسط ما تحتويه الغرفة فيها نحو ستة أو سبعة أنفس. وينصح مدير الإحصاء في الهند بأن يعلم الناس طرق ضبط التناسل، وليس شك في فائدة ضبط التناسل، ولكن جهل الطبقات الفقيرة وما يمكن أن يقيمه رجال الدين من العقبات في سبيل الدعاية يحولان دون ذلك.
وليس للحكومة ملاجئ تؤوي السائلين أو المحتاجين. ومع أن حكومة الهند تتعلل لإحجامها عن الإصلاح بجهل الأمة الهندية فإن الأمة نفسها قامت بإصلاحات عديدة في الدين والاجتماع والاقتصاد لم تقم بمثلها الحكومة. ففي المدن الكبرى أسس الأغنياء ما يسمى «دار مسألة» وهي مأوى للسائلين يأكلون فيه وينامون إذا ثبت عجزهم عن الكسب.
Page inconnue
ولم تكن الهند بهذه الحال من الفاقة في الأزمنة الماضية، وإنما جاءتها هذه الفاقة من الإنجليز. وليس شك في أن الزراعة كانت أحيانا لا تؤتي غلاتها لقلة الأمطار، فيحدث القحط، ولكن مثل هذا القحط لم يكن يحدث لولا زيادة السكان المتوالية مع بقاء غلاتها على ما هي عليه لا تزيد.
والسبب الأصلي لفاقة الهند - على ما أوضح غاندي - هو قتل الصناعات الهندية وخاصة الغزل والنسج، لكي يفتح الطريق لمنسوجات لنكشير فتستأثر بأسواق الهند. وقد كانت الأقمشة الهندية معروفة، يتهادى بها الملوك والأمراء، ولكن الإنجليز قتلوها وعمدوا إلى كل رجل معروف ببراعته في النسج فقطعوا يده، حتى ماتت صناعة النسج وأصبح الهندي الذي كان يشتري منسوجات بلاده لنفسه ولزوجته وأولاده يشتري منسوجات لنكشير الإنجليزية.
وهذا هو ما يجعل غاندي يلح على الهنود في الرجوع إلى المغزل والمنسج. فإنه يريد من ذلك أن يكافح الفاقة ويقدم للفلاح الهندي صناعة أخرى إلى جنب الزراعة تزيد كسبه وتمكنه من أن يشتري الطعام الكافي لأسرته، فإن الزراعة في الهند تقتضي كدا متواصلا بضعة أشهر ثم راحة متواصلة بضعة أشهر أخرى. فإذا استطاع الفلاح أن يغزل في مدة الراحة أمكنه أن يزيد مكاسبه بعض الشيء مما يعينه على المعيشة الحسنة.
وعلاج الفاقة هو - كما بيننا - علاج أيضا للنجاسة لأن الكرامة الاجتماعية تجيء في إثر الكرامة الاقتصادية.
الفصل التاسع
المرأة الهندية
من الكتب التي ذاعت في أوروبا وأمريكا كتاب ألفته آنسة أمريكية تدعى كاترين مايو وعنوانه «أمنا الهند». وهي تصف في هذا الكتاب المساوئ الاجتماعية التي يعانيها الهنود من تقاليدهم، وغاية الكتاب الدفاع عن الإدارة الإنجليزية، وأن الإنجليز يصلحون البلاد في حين تواجههم عقبات من التقاليد التي توارثها الهنود عن أديانهم، وهي تقاليد تهدم كرامتهم وصحتهم وتبقيهم في الفاقة والضعف.
وقد حنق الهنود على هذا الكتاب، وقالوا في الدفاع عن بلادهم إن هذه المؤلفة مأجورة من الحكومة البريطانية لكي تسوئ سمعة الهنود وتحط من قيمة جهادهم للاستقلال، وألفوا الكتب في الرد على كتابها هذا، وأثبتوا فيه مبالغات تدل على القصد السيئ من إيرادها ونشرها وما هو أن هدأت العاصفة حتى نشرت كتابا آخر عنوانه «عبيد الآلهة»، والمعنى واضح من هذه التسمية وهو أن الهنود قد استعبدتهم آلهتهم وهم لا يجرءون على الانطلاق من القيود التي قيدتهم بها، وقد جعلته قصصا تتناول في الأكثر حياة المرأة الهندية.
ومهما قيل عن هذين الكتابين فإن الذي لا مراء فيه أنها تذكر أشياء تقع في الهند، وهي إذا بالغت فلإبراز الصورة فقط، أو هي تعمم أحيانا حين يكفي التخصيص، فإن الأرملة مثلا لا تحرق الآن في الهند بوجه عام، ولكن من آن لآخر يقع هذا الإحراق. وبين المنبوذين رجال استطاعوا أن يبرزوا ويبلغوا القمة ولكن منهم من تعد حياته في نظر الهندي كحياة الكلب إن لم نقل كحياة الحشرة.
ومن أحسن ما قاله رجل من أحرار الإنجليز عن هذين الكتابين أنه يجب على الهنود أن يذكروهما وعلى الإنجليز أن ينسوهما. وهو يعني بذلك أن الهند يجب أن تصلح نفسها وأن الإنجليزي يجب ألا يعيب على الهنود هذه العيوب.
Page inconnue
وتذكر المؤلفة قصة أرملة تجري عليها محاولة إحراقها بالنار عقب وفاة زوجها، وتجري المحاولة في خفية، ولكن الحكومة تدري بها فتنقذها.
وهكذا الشأن في سائر الكتاب، فإنها تؤلف القصة لكي تضرب بها المثل على سوء النظام الاجتماعي في الهند. وميدان المرأة من الميادين الخصبة عندها، فإن الهند بلاد شرقية وهي والأقطار الشرقية سواء في وضع المرأة في مركز دون الرجل، وقد تكون حالها في الهند أسوأ حال وقعت بها في الشرق. فإنها تحرم هناك من الميراث، ويجوز للرجل أن يتزوج أي عدد شاء من النساء. وواضح أن حرمان المرأة من القيمة الاقتصادية يحرمها أيضا من القيمة الاجتماعية، وأعتقد أنه لو لم تحرم المرأة الهندية من الميراث لما تجرأ الهنود على إحراقها عقب وفاة زوجها.
ولم تعرف المرأة الهندية النقاب الذي يخفي الوجه، ولكنها عرفت الحجاب، فإنها لا تختلط بالرجال. وهي تعيش في حرم خاص بالنساء، وهذا الحرم يبنى بحيث لا تنفذ إليه أشعة الشمس، ولا يؤذن لها بالخروج إلا قليلا جدا، وأكثر خروجها في الليل، ولذلك يفشو السل بين نساء الطبقات المتوسطة لهذا السبب.
وتكثر أيضا أمراض الرحم عند الهنديات لسوء الطرق التي تستعمل في الولادة. فإن النفساء تعد نجسة، فهي تنبذ إلى غرفة قذرة نائية من المنزل، ولا تستعمل سوى الملابس القديمة البالية، فتكون النتيجة موت الطفل أو مرضها.
ويضاف إلى هوان المرأة هذا البغاء الذي تجيزه الهندوكية، فإن الأبوين ينذران بنتهما لكي تخدم في المعبد، فإذا بلغت السابعة أو الثامنة حملت إليه، فتصير من هذا السن بغيا للكهنة، ثم بعد ذلك لسائر الناس.
ومن العادات السيئة التي توورثت في الهند عن التقاليد أن يعقد زواج الأطفال وهم في الخامسة أو السادسة من العمر، فإن الأم تقعد وعلى حجرها ابنها، وكذلك تفعل أم البنت، ثم يأتي كاهن من البراهمة فيعقد بينهما الزواج. وقد تأخذ الأم ابنتها بعد ذلك أو تتركها بمنزل العريس، فإذا بلغ الاثنان سن المراهقة استهلكا قوتهما في وقت يحتاجان فيه إلى ادخارها، فينشأ الشاب الهندي منهوكا لا طاقة له على الكد والجهد. وتحمل زوجته وهي بعد في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فيمتص الجنين دمها، ويضنيها بعد أن يولد بالرضاع. ثم هي في هذه السن لا تصلح للأمومة، ولذلك يموت الأطفال في الهند بكثرة مفزعة.
وقد دعت الجمعية التشريعية الحكومة إلى سن قانون يمنع زواج الأطفال، وقد سن هذا القانون، ولكن الجمهور لا يزال يمارس هذا الزواج لأن العقوبة المقررة له هي غرامة غير فادحة، ولذلك لا بد من تربية الجمهور حتى يدرك الأضرار التي تصيب صحة الهنود وقواهم من هذا الزواج.
وفي مثل هذه الظروف يهون شأن المرأة هوانا عظيما. وينشأ الهندي وهو لا يدري معنى للحب بين الجنسين، إذ هو لا يعرف غير الغلمة. كما يهون شأن الأم، فلا تكون للتربية البيتية القيمة التي لها في الأقطار الأوربية.
ومن هنا نعرف السبب لأن زعيما كبيرا مثل غاندي لا يقصر جهوده على الحركة السياسية وطلب الاستقلال، بل يتجاوزهما إلى الحركة الاجتماعية، فيطلب تحرير المرأة ومساواة المنبوذين بسائر الهندوكيين، فإن نكبات الهند الاجتماعية ليست دون نكباتها السياسية بل قد تكون أفظع.
الجزء
Page inconnue
سياسية غاندي وفلسفته
الفصل العاشر
حياة غاندي
يقرأ الإنسان حياة غاندي فيجد في هزائمه وانتصاراته، ذلك الإلهام الذي يجده في الكتب المقدسة أو في الأساطير التي أنشأها عظماء الأدباء لكي يرسموا فيها الصور الرائعة للمثل العليا للإنسانية. وإنها لمن أحسن حظوظنا أننا عشنا في زمن رأينا فيه رجالا ونساء يخدمون البشر خدمة الإخلاص والوفاء، لا يبغون من وراء ذلك مصلحة شخصية لأنفسهم من مال أو وجاهة أو نفوذ، فهذا «ولسون» مات بيننا وهو يدعو إلى جحد الحروب التي كان يتجمد بها أسلافنا، وقد أفلح في تأسيس عصبة الأمم. وهذه المسز «بيزانت» تدعو الآن إلى الروحية وترفعنا فوق الأنانيات الصغيرة، وهي مع أنها إنجليزية تقود الهنود لمقاومة الإنجليز. وهذا «تولستوي» الذي عاش بيننا كأنه أحد الملائكة، ثم هذا غاندي الذي، يدافع الآن عن الكرامة الإنسانية في وجه المدافع الإنجليزية.
وهؤلاء العظماء يثبتون لنا أن زماننا ليس بذلك الزمن المادي الذي توهمنا الظروف أننا نعيش فيه، بل إننا نصبو إلى الروحية ونضع الكرامة الإنسانية فوق اعتبارات المال والمصالح الشخصية. والزعيم يمثل في شخصه ومبادئه أماني الأمم وخواطرها السامية، ولذلك فإن بذور هذه المثل العليا التي ننشدها، وما زال ينشدها أمثال تولستوي وغاندي والمسز بيزانت، هي كائنة في قلوب جميع الناس. وإنما نبتت وبسقت في قلوب الزعماء لأن مهمة العبقري أن يوضح للناس ما غمض في نفوسهم من الأماني السامية التي يحسون بها ولا يستطيعون التعبير عنها. ولا يمكنه أن يخلق شيئا جديدا ليس في نفوسهم.
فأنا وأنت وجميع الناس ننطوي على هذه البذور الشريفة التي نزعت بغاندي وولسون وتولستوي والمسز بيزانت وأمثالهم إلى الرقي النفسي والأخلاقي. فهم القمة التي لم تكن لو لم نكن نحن لها القاعدة. ولذلك فمهما رأينا من الظلام والظلم، ومهما حاطنا من الحيوانية والتوحش، ومن اللؤم والدناءة، فإنا يجب أن نثق بفوز الإنسانية والشرف والعدل والنور. وهل تريد برهانا على ذلك أكبر من أن جميع شعوب الأرض تعرف الآن اسم غاندي، هذا الرجل الفقير بل المعدم الذي يسير عاري القدمين حاسر الرأس. وتخصه بأكرم مكان في قلوبها، بينما هي تجهل كل الجهل أولئك الأمراء والملوك والسلاطين الذين يتقلبون في الديباج والجواهر ويحكمون الملايين من الهنود؟
أليس في هذا البرهان على أن نفس الإنسان قد تطورت، وأنه صار يضع القوى المعنوية، قوى الحق والعدل والنزاهة والشرف، فوق القوى المادية: قوة الجيوش والمال والبطش والسلطان؟ •••
يخطر ببالي وأنا أقرأ حياة غاندي ذكرى هؤلاء القديسين الذين تذكر تواريخهم الكنائس المسيحية. فمن عادة الكنيسة الكاثوليكية أنها تقرر من آن لآخر أنها قدست أحد الناس، أي أدخلته في زمرة قديسيها، وأعطته رتبة دينية لا يعلو عليها سوى رتبة الأنبياء. وقد فعلت ذلك بجان دارك، التي قتلتها الكنيسة أولا بتهمة الهرطقة، ثم عادت بعد 300 سنة فاعترفت بخطئها وأعلنت أنها من القديسات المسيحيات.
وقد يجلب هذا العمل ضحك المستهزئين لأن القداسة تقرر بقرارات يقوم بها البشر، ولكن إذا نحن تأملنا المغزى من هذا العمل وجدنا فيه أحسن صلة تصل بين الدين والدنيا، تكسب الدين حياة كما تكسب الدنيا تقوى، وتجعل الكنيسة تعترف للناس بأن القداسة في مقدور كل إنسان يريد خدمة الناس والانتقال بهم إلى أطوار أخلاقية أسمى مما عرفوا في سابق تاريخهم. وعلى هذا كان يجب أن تكون لنا هيئات دينية تعترف لأمثال غاندي وتولستوي وولسون بالقداسة، وتحفظ أقوالهم في كتب مقدسة ينشأ عليها الصبيان في المدارس، ويتدارسها الشبان في الجامعات، ويحاول الزعماء أن يوضحوا مراميها أو يسموا عليها بتعاليم جديدة. •••
ولد غاندي في ولاية هندية صغيرة في غرب الهند تدعى «كثياوار» سنة 1869، وكان أبوه رئيس الوزارة في هذه الولاية، ولكنه كان من الصدق في الخدمة والنزاهة في المعاملات المالية بحيث لم يترك بعد وفاته إلا القليل من المال لأولاده. وقد تعلم غاندي من أبيه الصدق والصلابة، كما تعلم من أمه التقوى. وكان ضئيل الجسم في صباه كما هو الآن في شيخوخته. ودخل مدرسة ابتدائية فلم يتقدم فيها كثيرا. والعادة الفاشية بين بعض الهندوكيين أن يقتصروا من الطعام على الخضروات وما تنتجه الأرض دون طعام اللحم. وسار غاندي على ذلك مدة ولكن عندما رأى ضعفه خطر له أن يأكل اللحوم، ووجد من نصيحة صديق له ما قواه على ذلك، ولكنه عاد فندم على مخالفته للدين، ولم يسترح إلا عندما اعترف وطلب الغفران.
Page inconnue