الفصل الثاني
جلست على كرسي قديم في الصالة، وجلس صاحب العمارة على الكرسي المقابل لها، وبينما كانت المنضدة الكالحة، ومن فوقها صينية صغيرة عليها فنجانان من القهوة. كان وجهه كبيرا ممتلئا باللحم، من تلك الوجوه التي نراها لأول نظرة فتفقد الثقة في صاحبها، شيء ما في حركة الشفتين أو في حركة العينين، أو في شيء آخر لا تعرفه، يوحي إليها أنه يكذب، أو أنه لا يمكن أن يصدق، ربما هي تلك الذبذبة اللاإرادية المستمرة في عينيه الجاحظتين، أو الرعشة الخفيفة التي تصيب شفتيه حين تنفرجان لتخرج من بينهما كلماته السريعة المتآكلة. إنها لا تدري تماما.
ولكن أتصدر أحكاما على الناس من ملامحهم؟ هي صاحبة العقل الكيميائي؟ أيمكن أن تحكم على الناس بأحاسيسها وانطباعاتها؟ لماذا لا تكف عن هذه العادة السخيفة.
ورأت شفته العليا الرفيعة تقفز وهو يتكلم فتكشف عن أسنان صفراء كبيرة. كان يقول: هذه الشقة إيجارها اليوم لا يقل عن ثلاثين جنيها في الشهر، ومدت يدها إلى فنجان القهوة وهي تقول: أعرف أعرف، ولكني لا أملك إلا هاتين المائتي جنيه، وسوف أدفعها لك دون أن آخذ العفش؛ فإنني لن أحتاج إليه، وارتجت عيناه الجاحظتان من تحت نظارته البيضاء السميكة كعيني سمكة كبيرة تمشي تحت الماء، ورمق البواب الواقف بجوار الباب نظرة سريعة ثم قال: إذا كنت في غير حاجة إلى العفش فإني أخفض القيمة إلى أربعمائة جنيه.
وابتلعت رشفة من القهوة المرة، وقالت: قلت لك ليس معي إلا مائتان، وقال البواب بعد أن نظر إلى سيده نظرة متواطئة: يمكنها يا سعادة البيه أن تدفع المائتين الآن وتقسط الباقي، وانفرجت الشفتان الرفيعتان عن ابتسامة ضيقة وتذبذبت العينان الجاحظتان وهو يقول: أقبل التقسيط ولكن كم يكون كل قسط؟
لم تكن تعرف فؤادة شيئا عن تلك المساومات، كانت تريد الشقة، بل أصبحت الشقة أملها الوحيد في الحياة، قارب النجاة الوحيد من ذلك الضياع والفراغ، والخيط الوحيد المتين الذي يقودها إلى البحث الكيميائي، وربما إلى الاكتشاف العظيم، ولكن هذا الوجه الكبير المشبع باللحم من كل زاوية، وهاتان العينان المقعرتان تنظران إليها في جوع ونهم وكأنها قطعة من اللحم، ألا تكفيه مائتان من الجنيهات نظير لا شيء؟ وكيف تقسط الباقي؟ إنها ستشتري الأدوات والأجهزة بالتقسيط، فمن أين تدفع كل هذا؟ ثم إنها ستدفع إيجار الشقة كل شهر، وقد تستأجر شخصا يستقبل الزبائن ويساعد في تنظيف المعمل.
كانت مطرقة تفكر في صمت، ورفعت عينيها فجأة إليه وضبطت عينيه الزجاجتين يرمقان ساقيها بنظرة شرهة فشدت بغير إرادة فستانها ليغطي ركبتيها، وقالت: لن أستطيع أن أدفع شيئا بالتقسيط، وأمسكت حقيبتها ونهضت لتخرج، ونهض هو الآخر وكأنه محرج وأطرق إلى الأرض وتمتم في أسف، أنا لم أخفض المبلغ عن خمسمائة جنيه لأي أحد، وجاءني أشخاص كثيرون لكني رفضت تأجير الشقة لمدة طويلة؛ إنها أجمل شقة في العمارة.
وقالت وهي تتجه إلى الباب: إنها شقة جميلة ولكني لا أستطيع دفع أكثر من مائتي جنيه، وسارت نحو المصعد، وأحست بنظراته تلسع ظهرها، وفتح لها باب المصعد فدخلت ودخل وراءها، كان ضخم الجثة عريض الكتفين له بطن عال، وساقان رفيعتان تنتهيان بحذاء صغير، وقال للبواب قبل أن يهبط المصعد: أغلق الشقة يا عثمان.
وهبط المصعد بهما، ورأت عينيه المقعرتين ترشقان صدرها بنظرة فاحصة دقيقة كأنما هو يقيسه أو يزنه، وكتفت ذراعيها حول صدرها وتشاغلت بالنظر في المرآة، وكأنما فوجئت حين رأت وجهها؛ منذ مدة طويلة لم تر وجهها، إنها لا تذكر أنها نظرت في المرآة في اليومين السابقين، منذ غياب فريد، ربما ألقت مرة نظرة خاطفة على شعرها بعد أن مشطته، لكنها لم تر وجهها، وبدا لها وجهها أطول مما كان، وعيناها أكثر اتساعا يشوب بياضها احمرار خفيف، وأنفها هو أنفها، وفمها هو فمها بتلك الفرجة اللاإرادية القبيحة، وزمت شفتيها وابتلعت لعابا له طعم البن المر حين توقف المصعد في الدور الأرضي، وتنبهت إلى أن صاحب العمارة كان لا يزال يرمقها من تحت نظارته السميكة البيضاء. وفتحت باب المصعد وأسرعت تخرج من العمارة لكنها سمعت صوته من خلفها يقول: لو سمحت يا آنسة. واستدارت إليه فقال: لم أعرف لماذا تريدين الشقة ... للسكن؟ وقالت في ضيق: لا؛ سأجعلها معملا كيمياويا. وانحسرت شفته العليا عن الأسنان الكبيرة الصفراء وقال: هذا شيء عظيم، وأنت التي ستعملين فيه؟ قالت: نعم. وتذبذبت عيناه لحظة ثم قال: كنت أود أن أعطيك الشقة ولكن ...
وقاطعته قائلة: أنا أشكرك ولكني كما قلت لك ليس معي إلا المائتان.
Page inconnue