وجدت فؤادة جسمها ممددا فوق سريرها، وعيناها تحملقان في السقف ، ليس في السقف كله، وإنما في دائرة صغيرة مشرشرة سقط الطلاء الأبيض من فوقها فأصبحت بلون الأسمنت، كانت تحس ألما في قدميها من كثرة ما تجولت في الشوارع المتفرعة من ميدان التحرير، لم تكن تعرف تماما لماذا تتجول، لكنها كانت كأنما تبحث عن شيء، ربما كانت تبحث عن فريد فيمن يقابلها من الناس؛ لأنها كانت تحملق في وجوه الرجال، وتفحص الرءوس التي تمر من وراء زجاج عربة أو تاكسي، ربما كانت تبحث عن شقة خالية؛ لأنها كانت تتوقف هنا وهناك أمام العمارات الجديدة وترمق البواب بنظرة طويلة حائرة.
ولكنها الآن تحملق في رقعة السقف المشرشرة بغير تفكير في شيء محدد، وسمعت صوت قدمي أمها تزحفان في اتجاه حجرتها فشدت اللحاف بسرعة فوق جسمها وأغمضت عينيها متظاهرة بالنوم العميق، وسمعت صوت أنفاس أمها اللاهثة وعرفت أنها واقفة على عتبة الباب تتأملها وهي نائمة، وحرصت فؤادة على أن تبقى بغير حركة وتركت صدرها يعلو ويهبط في تنفس عميق منتظم، ثم سمعت صوت القدمين تزحفان بعيدا عن حجرتها، وكان يمكن أن تفتح عينيها وتعود تحملق في السقف لكنها شعرت براحة وهي مغمضة العينين، وفكرت في أن تنام، لكنها قفزت من السرير بسرعة، فقد خطرت لها فكرة؛ وأدخلت نفسها في المعطف الكبير، واتجهت إلى باب حجرتها، لكنها توقفت لحظة كأنما تذكرت شيئا، وسارت إلى التليفون وأدارت القرص الخمس الدورات، وجاءها الجرس عاليا حادا لا ينقطع، فوضعت السماعة وخرجت من البيت مسرعة.
كانت تسير بسرعة، توجه قدميها من هذا الشارع إلى ذاك، وتقفز في أتوبيس تعرف رقمه ثم تنزل في محطة تعرفها كل المعرفة، وتنحرف إلى يمينها في شارع جانبي صغير تعرف أن في نهايته بيتا أبيض، من ثلاثة أدوار، له باب صغير خشبي.
ورأت البواب الأسمر جالسا على دكته في مدخل السلم، وكانت على وشك أن تسأله عن فريد لكنها تجاهلت نظرته الفاحصة المستطلعة الخاصة بكل البوابين، إنه يعرفها، وقد رآها مرات ومرات تصعد إلى شقة فريد، لكنه كان دائما وفي كل مرة يصوب إليها النظرة نفسها الفاحصة المستطلعة، وكأنه لا يعترف بكل تلك العلاقة بينها وبين فريد، وصعدت السلم في نفس واحد، ثم وقفت تلهث أمام الباب الخشبي ذي اللون البني القاتم، ورأت نافذة المطبخ المطلة على السلم مفتوحة، إن «فريد» موجود، لم تحدث له حادثة كما تصورت، ولم تخطفه السماء، ودق قلبها بعنف وفكرت في أن تعود بسرعة قبل أن يراها؛ لقد أخلف الموعد عن عمد لا عن عجز، ولم يطلبها في التليفون بعد كل ذلك ليشرح السبب، وكان يمكن أن تستدير وتعود لكنها لم تر نورا من خلال زجاج الشراعة، كانت الشقة مظلمة تماما، ربما يكون في حجرة النوم يقرأ، ونور حجرة النوم لا يصل إلى شراعة الباب.
وضغطت بأصبعها على الجرس، وسمعت صوت الجرس الحاد وهو يرن في البيت، وظلت ضاغطة بأصبعها والصوت يرن عاليا حادا في الصالة دون أن يفتح أحد الباب، ورفعت يدها عن الجرس فانقطع الصوت، وعادت فضغطت على الجرس، وعاد الصوت العالي الحاد يرن في أرجاء الصالة دون أن يفتح أحد. وألصقت أذنها بالباب لعلها تسمع صوت حركة داخل الشقة، أو أنفاسا مكتومة، أو أنينا، لكنها لم تسمع شيئا، وفجأة سمعت صوت جرس التليفون ينبعث من حجرة المكتب وانتفضت إلى الوراء، فقد خيل إليها أنها هي التي تطلبه من بيتها، ولكنها تذكرت أنها تقف وراء الباب، ولا يمكن أن تكون هي التي تطلبه الآن، وظل جرس التليفون يرن بضع لحظات ثم انقطع، وعادت فألصقت أذنها بالباب ولم تسمع شيئا ينم عن وجود كائن حي بالشقة، وسمعت صوت كعب عال رفيع يهبط السلم فابتعدت عن الباب قليلا وضغطت على الجرس مرة أخرى، واستطاعت أن ترى بطرف عينها امرأة سمينة تهبط السلم، وظلت ضاغطة على الجرس شاخصة إلى الأمام، حتى اختفت المرأة في ثنية السلم، وانتظرت بضع لحظات أخرى انقطع صوت الكعب الرفيع الثقيل على السلم، فبدأت تهبط الدرجات بخطوات بطيئة ثقيلة.
تركت قدميها تسيران، والأفكار في رأسها تدب بصوت يكاد يكون مسموعا، فريد أخلف الموعد ولم يطلبها في التليفون وليس في البيت فأين يمكن أن يكون؟ لا يمكن أن يكون في القاهرة، أو في مدينة قريبة منها. لا بد أنه في مكان ما بعيد، ليس فيه تليفون أو مكتب بريد، لماذا أخفى عنها سر غيابه؟ ألم تكن العلاقة بينهما تحتم عليه أن يقول، ولكن ما العلاقة التي تحتم على الإنسان أن يفعل شيئا معينا إزاء إنسان آخر؟ ما ذلك الذي يحتم عليه أن يفعل ...؟! الحب!
وتكورت الكلمة في فمها كلقمة غير قابلة للمضغ، الحب! ما معنى كلمة الحب؟ متى سمعتها لأول مرة؟ من فم من؟ إنها لا تذكر تماما؛ فالكلمة لم تغب عن أذنها منذ وعت الحياة، كانت تسمعها كثيرا، ولأنها كانت تسمعها كثيرا لم تكن تعرفها، كأعضائها الأنثوية، تراها كثيرا ملتصقة بجسمها، وتغسلها بالماء والصابون كل يوم دون أن تعرفها، وكانت أمها هي السبب، ربما لو ولدت بغير أم لعرفت كل شيء من تلقاء نفسها، فقد كانت تعلم وهي صغيرة جدا أنها ولدت من فتحة في نهاية بطن أمها، وأنها قد تكون هي الفتحة التي تبول منها، أو فتحة أخرى مجاورة، لكن أمها نهرتها حين أطلعتها على اكتشافها، وقالت لها إنها ولدتها من أذنها. وأفسدت أمها بهذا التصريح أحاسيسها الطبيعية، وعطلت إدراكها لكثير من البديهيات مدة طويلة. فقد ظلت فترة من الزمن تحاول خلق علاقة ما بين سماع الأصوات والولادة، وتشككت أحيانا في أن الأذن خلقت للسماع، وأنها ربما صنعت لتبول منها النساء بعد الزواج. لم تكن تدري لماذا تربط دائما بين الولادة والتبول وتحس أنهما لا بد وأن يكونا قريبين، وظلت تبحث عن موقع الفتحة التي خرجت منها إلى العالم، وظنت أنها ستدرسها في حصة التاريخ، أو الجغرافيا، أو الصحة والأشياء، لكنهم درسوا لها كل شيء إلا هذا. أخذت حصة عن الدجاج وكيف يبيض ويفقس، وحصة عن السمك وكيف يتناسل، وحصة عن التماسيح والثعابين وكل الكائنات الحية ما عدا الإنسان، حتى النخل درسوا لها كيف يلقح بعضه البعض، أيمكن أن يكون النخل أكثر أهمية عندهم من أنفسهم؟ وقبل نهاية العام رفعت أصبعها وسألت مدرسة الصحة والأشياء، فاعتبرت سؤالها خروجا عن الأدب، وعاقبتها بالوقوف أمام الحائط رافعة ذراعيها، وتساءلت فؤادة وهي تحملق في الحائط لماذا تلقح النباتات والحشرات والحيوانات بعضها البعض ويعتبرون ذلك علما من العلوم، وفي حالة الإنسان يعتبرونه شيئا فاضحا يستحق العقاب؟ •••
وجدت فؤادة نفسها تسير في شارع النيل، كان الظلام الكثيف يغطي سطح الماء، وأنوار المصابيح المستديرة منعكسة على الجانبين، وبدا النيل وهو يزحف في الظلام طويلا ممشوقا كجسم امرأة لعوب متشحة بالسواد حدادا على زوج تكرهه، وقد رشقت على جانبي ردائها الأسود حبات من اللؤلؤ المغشوش، وتلفتت حولها. كان كل شيء في الظلام يبدو لعوبا مغشوشا، حتى باب المطعم الصغير الذي انتشرت فوقه لمبات ملونة رخيصة أشاعت حوله ظلالا غريبة كالأشباح، ومرت أمام الباب دون أن تدخل، لكنها عادت إلى الوراء خطوة ودخلت، وسارت في الممر تحت الشجر، وانحرفت في نهاية الممر لتلقي نظرة على المائدة، لم تكن خالية، كان يجلس إليها رجل وامرأة، وكان الجرسون يضع أمامهما الأكواب والصحون، ويبتسم لهما الابتسامة نفسها التي كان يقدمها لها ولفريد، واستدارت بسرعة قبل أن يراها وخرجت من المطعم.
سارت في شارع النيل مطرقة، ما الذي أتى بها إلى هنا؟ ألا تعلم أن هذه الأمكنة متواطئة مع فريد، تعلن غيابه وتخفيه، يكتنفها الرياء والتناقض كأي موظف خبير، وخبطت بحذائها الأرض في غضب، ما الذي أتى بها إلى هنا؟ فريد هجرها واختفى فلماذا تحوم حول أمكنته؟ لماذا؟ لا بد أن تلفظه من حياتها كما لفظها من حياته. نعم، لا بد.
واستراحت لهذا التهديد، ورفعت عينيها لتتأمل الطريق، لكن قلبها دق بعنف، فقد رأت رجلا له مشية فريد مقبلا من بعيد، وأسرعت الخطى لتقترب منه، كان يميل بكتفيه إلى الأمام قليلا وينقل قدميه فوق الأرض ببطء يشبه الحذر، حركات فريد نفسها، واقتربا أكثر وأكثر، إنه يحرك ذراعيه بشكل ملحوظ، وفريد لم يكن يحرك ذراعيه بهذا الشكل الملحوظ، ولكن ربما يكون متعجلا لبلوغ المطعم بعد كل هذا الغياب، وأصبح على بعد خطوات منها وفتحت فمها لتهتف: فريد! لكن نور عربة مارة أزاح الظلام عن وجه آخر غير وجه فريد. وغاص قلبها في بطنها كقطعة من حديد وانكمشت حول نفسها داخل المعطف، وهز الرجل رأسه الأكرت في إيماءة لزجة، فأشاحت بوجهها بعيدا عنه وأسرعت الخطى، لكنه سار وراءها يهمس بكلمات مبتورة غير مفهومة، وتركت شارع النيل لتدخل في شارع جانبي، فدخل وراءها، وظل يطاردها من شارع إلى شارع حتى وجدت نفسها أمام بيتها. •••
Page inconnue