الفصل الثالث عشر
نعود بالقارئ إلى القاهرة بعد أن قضينا معه وقتا طويلا في رشيد، شهدنا فيه بعض حوادثها الجسام، نعود به إلى القاهرة لنرى أن الخطوب فيها ما زالت تتلاحق وتتعاقب، وسحائب الكوارث ما فتئت تتجمع وتتراكم.
فقد غادر نابليون القاهرة على حين غفلة من جيشه ومن أهلها، في الثامن عشر من أغسطس 1799م بعد أن رأى آماله ركاما، وأطماعه أحلاما، وبعد أن سمع بأذنيه ضحك القدر، وأحس بسخرية الأيام، فانطلق به النيل إلى أحد شاطئيه بالقرب من الإسكندرية حزينا مهموما، يرى في كل موضع قدم قبرا، وفي كل لجة من لجج البحر شركا، انطلق به النيل وطفق يجري ويمور كما كان يجري ويمور منذ القدم، وأخذت أمواجه تقهقه من طموح الإنسان، وتحديه أحكام الزمان. نابليون يعود أدراجه إلى بلاده مخاطرا بنفسه، بعد أن انقطعت به إليها السبل، وربضت له بوارج الإنجليز في البحر تنتظره، كما ينتظر الأسد الطاوي فريسته! جاء إلى مصر فلم يظفر بشيء، وأضاع كل شيء، فكم وعد وكم صانع، وكم تنمر وهدد، فلم تفتح له مصر قلبها، ولم تلق أمام قوته سلاح ضعفها، قامت الثورات في كل مكان فعجز بطل إيطاليا وقاهر النمسا، والفارس المعلم في فرنسا، أن يخمد نارها أو يطفئ أوارها، ولم تغن عنه عدده وآلاته الحديثة شيئا أمام عصي المصريين المخلصين، الذين قذفوا بأنفسهم للموت في سبيل وطنهم، ثم ذهب إلى الشام فلقنه الجزار درسا أطار من نفسه ذلك الزعم، الذي سول له أنه رجل الدنيا وواحدها، نظر - وهو يغادر مصر - إلى جنوده المغاوير، فإذا هم حفنة من المهازيل الساخطين، أكلت الحروب والثورات والطواعين خيرة رجالهم، وحصدت نخبة أبطالهم، ثم التفت فرأى الجوع والفقر والسخط في ظل سياسته، يمزق أوصال مصر ويهدد كيانها، وأن قوانينه وفلسفته لم تجعل مصر سعيدة، وأن ما جمعه من الضرائب والمكوس لم يكف لنفقة جنده، وأن إيراد مصر أيام المماليك الجهلة الأغبياء كان أربعة أمثال إيرادها في عهده المتلألئ الزاهر! ثم فكر في فرنسا وفيمن فيها ، فإذا هم أعداء ألداء قذفوا به في أتون مصر، ليستريحوا من توثبه وطموحه، وإذا زوجه «جوزفين» التي ألقى بحبه تحت قدميها، تدوس ذلك الحب وتنسى ذكراه، كأنها أضغاث حالم، ذكر كل هذا وهو واقف إلى جانب قصر القياصرة، على شاطئ البحر بالإسكندرية، فبكى ملء عينيه، وأن أنين البائسين، ولو أن مصورا ماهرا رسم صورته عند قدومه مصر، وهو ينزل من قصر مراد بك ليعبر النيل إلى القاهرة، فاتحا متحديا مرتفع الصدر أصيد العنق، كأن الأرض لم تنجب غيره، والتاريخ لم يظفر بسواه، ثم رسم صورته وهو ينزل إلى السفينة بالقرب من المكس، فيلقي بنفسه بين أيدي الأقدار، مطرق الرأس مثقلا بالأحزان؛ لظهرت قدرة الله وعزته، ولعلمنا أن الحياة سراب، وكأن هاتفا كان يهمس في أذنه وهو يجر رجليه إلى السفينة قائلا: انزل أيها الفاتح المغوار، وانج من البحر كما يشاء لك الله أن تنجو، وادخل فرنسا مؤزر الجانب عزيز السلطان، واقهر المماليك، وأذل الملوك كما يزين لك الطموح، وكن إمبراطورا لفرنسا، وتطلع لحيازة الدنيا بحذافيرها، فلن تفلت من مخالب القضاء، واعلم أن في نهاية المحيط جزيرة قاحلة تسمى «سنت هيلانة» لا تزال فاغرة فاها لالتقامك.
سافر نابليون إلى فرنسا بعد أن جعل الجنرال كليبر خلفا له بها، وكان كليبر شديد الاعتداد بنفسه، مولعا بمظاهر الملك، وقد فدح المصريين في أول عهد بفنون من الضرائب اعتصرتهم اعتصارا، فزاد سخط الناس، وتأججت الصدور بالغيظ، وكثرت الاجتماعات السرية والمؤامرات، وكان محمود العسال في ذلك الحين لا يزال بالقاهرة، وكان يكثر من زيارة لورا ونيكلسون، وقد آن لنا أن ندون هنا أن هذه الزيارة المتكررة، إلى قنوطه من التزوج بزبيدة، إلى ما كان يحسه من عطف لورا ورقتها وقوة جاذبيتها، جعلته يحن إلى بيت نيكلسون ويشعر عند مشاهدة لورا والجلوس إليها بلذة روحانية عجيبة، أبى عليه كبره أن يعللها؛ لأنه كان يريد أن يقبر حب زبيدة في قلبه، وأن يعتز به، ويتسلى بذكرياته، وإن كان حبا يائسا عميقا، وحينما رأى نيكلسون تكرار هذه الزيارات ، وقرأ في وجه ابنته ابتهاجا بها ، عرض عيه أن يساكنهما في هذا الزمن المضطرب بالمخاوف والأحداث، فقبل محمود شاكرا، وانتقل من بيت ابن عمه حسين إلى بيت لورا بالكحكيين، وكان يخرج مع نيكلسون لزيارة المتآمرين على الفرنسيين، أمثال: الشيخ السادات، والسيد عمر مكرم، والسيد المحروقي، وغيرهم، وكانا يسقطان بين الحين والحين على الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، ليلتقطا منه أخبار القاهرة والأقاليم، فغشيا داره بالصناديق ذات ليلة، فوجداه منحنيا على بعض الأوراق وقد وضعها على فخذه، وأخذ يكتب فيها ما دون في صحف انتثرت حوله، فلما دخلا ذعر الشيخ أول الأمر، وانكب على الصحف يجمعها ويخبئها تحت سجادته، ولكنه حين عرفهما أخذ يقهقه ويقول: لا تؤاخذاني يا سيدي، فإننا أصبحنا في زمان نخاف فيه من خيالنا في المرآة، أسعد الله مساءك يا سيدي محمودا، ثم اتجه إلى نيكلسون وقال: كيف حال الحاج السوسي؟ هل من أخبار؟ - الأخبار عندك أنت يا مولانا. - عندي أخبار سارة، ويا حبذا لو صحت الأحلام؟ فأسرع محمود سائلا في لهفة واضطراب: وما هي يا مولانا الشيخ؟ - علمت اليوم فقط من المعلم نقولا الترك المترجم، أن كليبر في أول ولايته كتب إلى الصدر الأعظم للدولة العثمانية رسالة مطولة يطلب فيها الصلح بين الدولتين، وأن تعقد معاهدة لخروج الفرنسيين من مصر.
فقال نيكلسون: هذا ما ظننته، فإن موقعة أبي قير الأولى التي حطمت سفنهم، لم تترك في نفوسهم خيالا من أمل في البقاء بمصر.
ثم قال الشيخ الجبرتي: وبلغني أن الأتراك بعد أن قابلوا هذا الطلب بالازدراء، أرسلوا بسفنهم وجنودهم - كما تعلمون - إلى دمياط، فهزمهم الفرنسيون شر هزيمة، فقال محمد: نعم يا سيدي إن كارثتنا بأصدقائنا أنكى من كارثتنا بالفرنسيين، فاستمر الشيخ وقال: ولكن الفرنسيين - على الرغم من انتصارهم - ألحوا في طلب الصلح من العثمانيين، وقد علمت أن معاهدة وضعت شروطها باتفاق الفرنسيين والترك، والإنجليز والروس، وأن خير ما في شروطها أن يخرج الفرنسيون من مصر، وأن يؤمن سفر الجيش الفرنسي الذي يبحر من مصر بأسلحته وأمتعته إلى فرنسا .
فقال محمود: يا فرج الله!
وقال نيكلسون وهو يهز رأسه هزة نفي واستنكار: يخرج الجيش الفرنسي آمنا بعدده وآلاته، ليشعل نار الحرب من جديد على إنجلترا؟ ما أظن إنجلترا ترضى بهذا.
فقال الشيخ الجبرتي: إن «سدني اسميث» أمضى هذه الشروط. - ما أظن، وهنا قال محمود لنيكلسون: يا سيدي إذا أرادت إنجلترا أن تمزق جيش فرنسا فلتخرجه من مصر أولا، ثم تمزقه في أي مكان آخر! - أتمنى يا محمود أن يحقق الله ما تريد، فقد نزل بمصر من الويلات ما يدك الجبال، وإذا لم توافق إنجلترا على هذه المعاهدة، فستكون الكارثة أفدح والبلاء أعظم، ولكني أعرف سياسة إنجلترا، وقليلا ما تكذبني ظنوني.
وصدقت الأيام ظنون نيكلسون، وأبت إنجلترا أن توافق على المعاهدة فنقضها الفرنسيون، وبرز «كليبر» بجيوشه لمحاربة العثمانيين عندما بلغت جيوشهم «عين شمس».
Page inconnue