قال: وما هي عادته يا فصيح؟
قال: إن هذه المسكينة لم تمت حتف أنفها، ولكنهم أماتوها بالسم وأظهروا أنها ماتت بالمرض، وكم من مرة قمت بمثل هذه المهمة في أيام معاوية؛ فقد كان أكثر ارتكابا لهذا المنكر، وكلما أراد قتل رجل سقاه قدحا من العسل وأمر بدفنه، والناس يحسبونه مات بعلة، ولكنه قلما صنع ذلك بالنساء.
فقال ذاك: وما عسى أن يكون من أمر هذه الفتاة وهي عروس الخليفة، ولم تأت قصره إلا في صباح الأمس؟
فأجابه الآخر وقال: ما لنا ولكثرة الكلام؟ دعه يقتل من أراد ونحن نحفر القبور، والله يجزي على الذنوب.
وكانا يتكلمان وينبشان، فما أحسا إلا والمعول وقع في السرداب فصاح أحدهما: إني أراني فوق بئر وأخاف أن يصعد إلينا منها عفريت أو جان. •••
أدرك عامر لما سمع الحديث أنهما صارا تحت المقبرة خارج المدينة، وأنهم يحفرون قبر سلمى، وعلم عبد الرحمن ذلك أيضا فأحب أن يتكلم، ولكن عامرا أمسك بيده وأشار إليه أن يسكت ريثما يخرجان من السرداب، فسكت عبد الرحمن ولكن الرطوبة والهواء غلبا عليه فعطس عطسة دوى لها السرداب، فأجفل الرجلان وصاح أحدهما: ألم أقل لك إن المكان مسكون؟ هيا بنا قبل أن تدركنا العفاريت. قال ذلك وفر، وتبعه رفيقه، ولم يمض قليل حتى ساد المكان سكون تام، فمشى عامر وعبد الرحمن حتى خرجا من السرداب، وتلفتا فإذا هما في مقبرة خارج المدينة وقد لاح الفجر، فأسرعا بالخروج من المقبرة وعبد الرحمن يود البقاء ليرى سلمى ولو ميتة، وعامر يلح عليه بالخروج لئلا تدركهما الشرطة، ويهون المصيبة عليه، حتى إذا بعدا عن المدينة وأوغلا في الغوطة لجآ إلى شجرة في مختبأ، وقال عامر: ارجع يا بني إلى رشدك واصبر إن الله مع الصابرين، هيا بنا إلى الشيخ الناسك فإنه في انتظارنا قرب الدير فوق قبر حجر.
فقال عبد الرحمن: وسلمى؟ أأتركها؟! أتركها وحدها بين هذه القبور؟ قال ذلك وغلب البكاء عليه ، فشاركه عامر في البكاء ولكنه تجلد وقال له: اصبر يا عبد الرحمن وتدبر الأمر بالحكمة. إن بقاءنا هنا أو ذهابنا إلى المقبرة أو رجوعنا إلى الشام لا يفيد شيئا، والحق أني كنت في شك من مقتل سلمى، وكنت عازما على البحث عنها، ولكن ها قد تحققنا وقوع المصيبة فلم تبق لنا فائدة من البحث، وعلينا أن نصبر صبر الرجال حتى نشفي غليلنا بالانتقام.
فقال عبد الرحمن: نعم، لا بد من الانتقام، ولكن كيف؟ إني لا أرضى الانتقام لسلمى إلا بقتل قاتلها الذي يسمي نفسه خليفة. إن قتله والله عوض قليل عن سلمى حبيبة قلبي وروحي وابنة عمي. آه يا سلمى! وكيف أتركها تدفن وأنا حي، وهي إنما استقبلت الموت من أجلي، ولولاي لم تدخل قصر يزيد ولا أصابها ما أصابها؟! ولقد كان موتها سببا لنجاتنا من الموت، فلولا أنهم جاءوا لحفر قبرها لكنا قبرنا قبلها في السرداب، آه يا عماه ليتني قبرت وكان قبري تحت قبرها. لنكون متجاورين وتختلط عظامنا وتمتزج بقايانا كما امتزجت روحانا.
قال ذلك وخنقته العبرات، فتركه عامر ينفس عن نفسه بالبكاء، وبكى هو الآخر شجاعة سلمى وحسن أخلاقها ما شاء، وبعد قليل عاد إلى التخفيف عنه فقال: إن سلمى تستحق أكثر من هذا، ولو قتلنا أنفسنا عليها ما وفيناها حقها، ولكن هذا يسر أعداءنا، وخير منه أن نتدبر الأمر بالحكمة ونسعى للانتقام بتعقل ودراية؛ لنظفر به ونرضي روح سلمى في قبرها. قال ذلك وتذكر ما أوصته به لما فارقها في الدير فالتفت إلى عبد الرحمن وقال: أعرني سمعك لأبلغك وصية سلمى لك يوم سارت إلى يزيد.
فقال: قل، حدثني عن سلمى، ماذا قالت؟
Page inconnue