ولما انتهت الصلاة، وتفرق الناس تظاهر بالنعاس والضعف، حتى خلت الكنيسة من المصلين وصعد القسيسون إلى غرفهم، فأخذ الخادم (القندلفت) يمر على الشموع ليطفئها، فتذكر عامر مهمته، ورأى ألا بد له من مصباح أو شمعة يستضيء به في السرداب، فعول على سرقة بعض الشموع التي على المذبح، ولكنه كان يخشى الخادم، وفيما هو يفكر في ذلك دنا هذا منه كلمه مستفهما عن غرضه. وكان الخادم من أهل دمشق وقد تعلم العربية، فقال له عامر: إني رجل مريض، وقد نذرت أن أبيت لليلة تحت صورة القديس يوحنا لعلي أبرأ من دائي.
فاستحسن إيمانه، ولكنه استطال إقامته معه طول الليل، فقال له: إنني مكلف بإغلاق الكنيسة قبل انصرافي.
فقال عامر: لا بأس، أغلق الباب وخذ مفتاحه معك، وأبقى أنا هنا إلى الصباح، فقد بدأت أشعر بالراحة، وعسى أن ينفعني إيماني.
فلم ير الخادم بأسا من إجابته إلى طلبه، ولا سيما أن الكنيسة ستكون مغلقة ومفتاحها معه، فجاءه بزيت من زجاجة مقدسة كان في حق أمام أيقونة العذراء ودهن به رأسه، وقال له: إن بركة العذراء ستعجل شفاءك، ثم دعا له بالشفاء، وتركه وأغلق باب الكنيسة وخرج إلى غرفته.
ولبث عامر بعض الوقت متشاغلا بالتأمل فيما حوله على ضوء المصابيح الصغيرة المعلقة أمام الأيقونات الكبرى، وكان في بعض هذه الأيقونات صورة كبيرة ظهرت له مجسمة، وزادها فراغ المكان تجسما ورهبة، فاقشعر بدنه وخيل إليه أنها أشباح حية ترقب حركاته وأبصارها متجهة كلها نحوه. ثم تذكر عبد الرحمن وما هو فيه من الخطر فهب من متكئه وأصاخ بسمعه فلم يسمع صوتا ولا حركة.
وكان قد عرف مكان قطعة الرخام التي قد وصفها له الناسك، فنهض وسار حتى وقف بقربها، وأعاد فحصها فإذا هي كبيرة وليس فيها حلقة يجذبها بوساطتها، فاستل خنجره وعاجل به مواضع اتصالها بما يجاورها، وما زال يحاول زحزحتها حتى توسم قرب اقتلاعها، فتركها وأخذ في جمع بعض الشمع ليستنير به في ذلك السرداب، وبعد أن ادخر طائفة منه في جبيه أشعل شمعة من مصباح، وانتزع قطعة الرخام محاذرا أن يسمع لذلك صوت، وما كاد يفعل حتى أحس بنسيم بارد خرج من السرداب وفيه رائحة العفونة، فاستبشر، وأمن جانب الاختناق في السرداب، ثم هبط درجات السلم الحجرية، والشمعة في يده حتى وصل قاع السرداب فغاصت قدماه في بقايا مياه وأوحال، وحام البعوض حول الشمعة، ولم يخط بضع خطوات حتى هبت نسمة قوية أطفأت الشمعة فأظلم السرداب، فرمى الشمعة ومشى يتحسس ويتلمس ويساره على الحائط وقد أحس برطوبته، وقلبه يخفق، وهو لا يسمع غير طنين البعوض، ولا يرى شيئا لشدة الظلام. تارة يغوص في الوحل، وطورا يعثر بالأحجار، حتى انتهى إلى مكان جاف فأسرع في خطاه وهو يحملق ويصيخ بسمعه لعله يرى بصيصا أو يسمع حفيفا.
وفيما هو في ذلك سمع صوتا بعيدا لم يتبينه لبعده، فأسرع السير نحو مصدره ويده اليسرى على الحائط، وما زال الصوت يقترب منه حتى عثرت رجله بحجر فوقف، وراح يتحسس الطريق بيديه، فإذا هو عند آخر السرداب وأمامه درجات لا بد له من صعودها، وقبل أن يضع قدمه على أول درجة رأى نورا ضعيفا منبعثا من شقوق باب صغير في أعلى السلم وسمع قائلا يقول: لا تهددني بالقتل، فإني لا أخاف الموت. •••
علم عامر أنه وصل إلى السجن، وعرف صوت عبد الرحمن، فصعد الدرجات حتى دنا من الباب ووضع عينيه على شق فيه، وحدق فيما هنالك فرأى رجلا واقفا كان بيده مصباح فوضعه على حجر بارز في أحد الجدران، ودنا من رجل آخر جالس والأغلال في يديه ورجليه، وتفرس عامر في الرجل الواقف فعرف من بياض برصه أنه شمر، ورأى في يده سيفا مسلولا، وعرف أن الجالس عبد الرحمن، ولم يكد عامر يراهما حتى سمع شمرا يقول: يا للعجب من وقاحتك ووقاحة ابنة عمك! أنت تقول اقتلوني لا أبالي، وكانت هي تقول كذلك، وقد قتلتها منذ لحظة، وأتيت الساعة لأقتلك، ولكنني قبل أن أخرج روحك من جسدك أطلب إليك بأمر أمير المؤمنين أن تلعن عليا، فإذا فعلت علمت أنك نادم على ما فرط منك من تعمد قتل الخليفة، فأرى ...
فقطع عبد الرحمن كلامه وقال: أتخوفني يا شمر بقتل سلمى وهي بعيدة عنكم لا تنالها أسيافكم؟!
فضحك شمر وقال: إنك جاهل مغرور، لهذا لا تصدقني. لقد جئت بسلمى إلى هذا القصر صباح اليوم ليتخذها الخليفة زوجة، وقد ماتت منذ ساعة، فإذا شئت أن تعلم كيف ماتت فاعلم أنها تجرعت السم بالعسل، وأما أنت فسأميتك بحد هذا السيف. قال ذلك وهز السيف بيده فاهتزت أعضاء عامر وتحفز لخلع الباب، ولكنه رأى شمرا قد وقف ولم يقترب من عبد الرحمن. أما هذا فلما سمع بموت سلمى صاح صيحة قوية وحاول النهوض ولكن الأغلال الحديدية حالت دون ذلك، فسمع عامر صلصلتها، ثم سمعه يقول: تبا لكم يا أهل الغدر، أتقتلون سلمى وتحسبونني أريد البقاء بعدها؟! ثم تكلفونني أن ألعن خير الناس بعد الرسول ثمنا لهذا البقاء؟! لقد قيدتم يدي ورجلي والموت أقرب إلي من حبل الوريد، ولكنني لا أخاف منه. عجل بقتلي يا شمر، لألقى سلمى في مكان لا غدر فيه ولا خيانة. ولكن، يا ليتهم اختاروا جلادا غيرك؛ لأنني أكره أن أموت بسيف نذل لئيم مثلك.
Page inconnue