قالت والجد باد في وجهها: قلت لك إني لا أهزل، بل أقول الجد ، وأنا باقية هنا حتى أحمل إلى دار الخليفة، وإذا ساءك ذلك فابق حيثما شئت.
فقال وقد مل إصرارها: إذا كنت تجدين فما أنا معك؟ وإلا فما الذي تعنينه؟
فقالت: كن حيث شئت؛ فإني أعني ما أقول.
قال: أتعنين أن تقبلي يزيد زوجا لك؟
قالت: لا تقل: يزيد، بل قل: أمير المؤمنين.
فذهل عامر وظن نفسه في حلم، وكان وهو يخاطبها قد هم بجمع الأمتعة فلما سمع كلامها ترك ما كان بيده من الثياب، ووقف وأسند ظهره إلى الحائط مبهوتا لا يبدي حراكا، وهو يعجب لما سمعه منها، وقال في نفسه: لقد صدق من قال: إن النساء ضعيفات العقول، إن هذه الفتاة نسيت ابن عمها بعد أن كانت تتظاهر بالاستماتة في حبه ورضيت رجلا كان السبب في القبض عليه وربما قتله. لك الله يا عبد الرحمن! ثم نظر إلى سلمى فإذا هي جالسة لا تعبأ بغضبه فناداها قائلا: سلمى! قالت: نعم. قال: أأنت ابنة حجر بن عدي؟! قالت: لا أدري.
قال: ألم نكن بالأمس نبكي أباك تحت تلك الشجرة؟! ألم نقسم لنأخذن بثأره؟! هل نسيت موقف عبد الرحمن والخنجر بيده؟! أنسيت عبد الرحمن ابن عمك وخطيبك؟! أنسيته لأنه وقع في ضيق ويئست من حياته؟! أطمعت في القرب من الخليفة ابن قاتل أبيك؟! أعوذ بالله! ما هذا الذي أراه؟! أفي حلم أنا أم في يقظة؟
فقالت بصوت هادئ لا يشوبه اضطراب وهي مطرقة: لا، بل أنت في يقظة.
فلما سمع كلامها تصاعد الدم إلى رأسه وبدا له فشله بعد أن شهد انقلابها فتناثر الدمع من عينيه وهو يحاذر أن تلحظ سلمى ذلك فتنسبه إلى الضعف، فتحول وخرج من الغرفة وهو لا يدري ماذا يفعل ولا إلى أين يذهب، ولم يصل إلى الصفصافة حتى لقيه الرئيس، فلم ينتبه لوجوده حتى سأله عما كان من أمر سلمى، فلم يدر بماذا يجيبه لئلا يلمح كدره فيطلع على شيء من سره، ويفتضح أمره، ولكنه تجلد وحاول الابتسام وقال: لا ريب في أنها اغتبطت بهذه النعمة. قال ذلك وتظاهر بأن أمرا طرأ على ذهنه يدعو إلى سرعة الرجوع، فاستأذنه وعاد حتى أتى باب الغرفة وهو لا يلتمسه، فأراد التحول عنه فوقعت عيناه على سلمى فإذا هي مشتغلة بشيء تحاول دسه في جيبها، ولما رأته بادرت إلى الباب فأغلقته في وجهه ثم أوصدته.
فلما رأى تسترها منه إلى هذا الحد، داخله ريب في أمرها، ولبث واقفا بالباب وهو لا يفهم سر هذه الظواهر الغريبة، فلم تطاوعه نفسه على طرق الباب وأحب العزلة برهة لعله إذا خلا بنفسه ينكشف له شيء من هذا الغموض، فانقلب راجعا حتى خرج من باب الدير، ومشى في البستان حتى تجاوزه وهو غارق في بحار الهواجس، لا يدري إلى أين تسير به قدماه.
Page inconnue