فدق عامر يدا بيد وقال: تبا له من غادر! أظنه لن يصبر إلى الغد لكي يشي بنا، وقد كان من الحكمة أن تماطليه وتدافعيه ريثما نخرج من هذا المكان ولا سيما أنك تعلمين أن قيادنا في يديه، وأنه قادر على أن يؤذينا.
فقطعت سلمى كلامه قائلة: لا تلمني يا عماه؛ فإني لم أستطع صبرا على قحته وغدره وتهديده. ولم أعد أريد الحياة بعد ما أصابنا. قالت ذلك وخنقتها العبرات فسكتت واغرورقت عيناها بالدموع، فندم عامر على ما بدا من لومه وقال: إني لا ألومك يا سلمى، فلو كنت أنا مكانك لما قابلته بأخف من ذلك، على أني أخفيت عليك أمرا وقع لي بالأمس من ابن زياد، ولم أطلعك عليه بعد.
قالت: وما ذاك؟ فقص عليها خطبة ابن زياد لها إلى أن قال: وقد ماطلته خوفا من غضبه. والآن لم يبق لنا إلا التأهب للسفر، فقد بعت الجمال والأحمال فخفت أمتعتنا، ولم يبق لنا ما نحمله غير هذه الثياب.
قال ذلك وأخذ في جمع الثياب وحزمها، ولم يكد يفعل ذلك حتى سمع رئيس الدير يناديه باسمه، فأجفل وتحول إلى الباب ففتحه وتطلع فرأى الرئيس واقفا تحت الصفصافة وأمارات البشر على محياه، فلما وقعت عينه على عامر أومأ إليه بإصبعه أن يأتي إليه.
فاستبشر عامر بوجه الرئيس وذهب عنه اضطرابه، واستأذن سلمى في الخروج إليه، ثم خرج على عجل. وقبل أن يصل إليه تحول الرئيس نحو السلم المؤدي إلى السطح وهو يومئ إليه أن يتبعه، فسار في أثره حتى صعد إلى السطح، ودخلا غرفة الرئيس، فإذا هناك عبيد الله بن زياد جالسا على وسادة مثناة فوق البساط فانقبضت نفس عامر، وأوجس خيفة من قدومه؛ إذ تيقن أنه إنما جاء خاطبا. ولكنه تجلد وتظاهر بالبشاشة والارتباك، فوقف له ابن زياد ورحب به وأجلسه إلى جانبه، وجلس الرئيس على جانب البساط بقرب الباب، فلما استقر بهم الجلوس قال عامر: كيف أصبح مولانا أمير المؤمنين اليوم؟
قال: أصبح في خير، وقد كلفني أن أحمل إليكم بشرى أظنها تسركم، وإن كانت لا تسرني.
فسكت عامر، ثم أدرك أن سكوته يعد احتقارا لإنعام الخليفة فقال: إننا جند أمير المؤمنين، نأتمر بأمره.
قال: أنت تعلم ما في نفسي من أمر ابنتك وما خاطبتك به بالأمس، ألا تذكر ذلك؟
قال: نعم أذكر يا مولاي.
قال: وقد كان في نيتي أن أعود إليك مرة أخرى، فسبقني أمير المؤمنين؛ لأنه شاهد ابنتك اتفاقا، فوقعت من نفسه موقعا حسنا، واعتزم أن يسعدك بالمصاهرة لتكون ابنتك من بعض نسائه.
Page inconnue