فاتجه عامر إلى عبد الرحمن وسلمى وقال لهما: هلم بنا إلى الغوطة نتمشى بين أشجارها، فقد أذن لنا الرئيس بذلك.
فنهضا، وتحولوا جميعا فنزلوا إلى ساحة الدير وأطلوا منها على الحجرة التي كانوا مقيمين بها أثناء النهار، فرأوا بابها مفتوحا، فأسرع عامر وأغلقه، وبينما هو عائد رأى كلب الناسك نائما بالقرب من الباب ولم ير شيخه معه، فعجب لذلك؛ لأنه كان قد سمع أن الشيخ الهرم قلما يفارق كلبه ليلا أو نهارا.
وكان عبد الرحمن وسلمى قد سبقاه إلى باب الدير، فخرج في أثرهما وهو يقول: لقد رأيت شيبوب نائما وحده بقرب حجرتنا فأذكرني ذلك الشيخ الجليل، ومما أدهشني من أمره أنه يتكلم العربية الفصحى وفي لهجته ما يقارب لغة العراق، ووالله لقد تمنيت أن أخلو به لأسأله عن أصله.
قالت سلمى: أين هو من العراق? وما الذي يأتي به إلى هذه الديار؟ إني أراه رجلا له، ولكنني استأنست بشيبوب، ليتنا نصطحب هذا الكلب؛ فإنه قد يدفع عنا أذى الدبابات أو ينبهنا إلى لص قادم.
فقال عبد الرحمن: دعونا من هذا الرفيق، فإننا في حاجة إلى التستر.
وكانوا قد وصلوا إلى باب البستان ففتحوه وخرجوا إلى الغوطة وهم يتظاهرون في بادئ الأمر بأنهم يريدون التنزه مشيا. حتى إذا تواروا عن الدير أوغلوا بين الأشجار المتكاثفة، وعامر يسير أمامهما، وسلمى وعبد الرحمن يتبعانه، تارة يطلعون وطورا ينزلون، وهم يتحسسون الطرق على ضوء القمر المنبعث من خلال الأغصان.
وما زالوا يقطعون قناة هنا، أو يعبرون جسرا هناك، وهم سكوت، وقلب سلمى يخفق تطلعا إلى قبر أبيها، وعبد الرحمن يفكر فيما عزم عليه من قتل يزيد، حتى أشرفوا على مرتفع بسيط تعلوه شجرة جوز منبسطة الأغصان، تظل بقية خالية من النبات وفيها مرتفعات من الأتربة على غير نظام. فلما صاروا تحت الجوزة وقف عامر ثم التفت إلى سلمى وأشار إلى أكمة صغيرة بجانب ساق الجوزة وقال: هذا هو يا سلمى قبر أبيك.
وما أتم كلامه حتى ترامت على ذلك التراب تقبله وهي تبكي وتصيح : وا أبتاه! هذا هو ترابك، فأين أنت! أين أنت يا حجر بن عدي سيد كندة! وأوغلت في البكاء.
أما عبد الرحمن فتقدم حتى وقف بجانب سلمى وقد أنكر صياحها وخشي افتضاح أمرهم بسببه، فوقف إلى ساق الجوزة وقال لسلمى: لا تبكي يا سلمى فإن البكاء لا يليق على ميت سننتقم له في الغد، والتفت إلى عامر وهو يقول: اقصص علينا يا عماه تفصيل مقتل صاحب هذا القبر.
فقال عامر: اجلسا يا ولدي لأقص عليكما الخبر كما عرفته، ثم قال بصوت ضعيف: اعلما أننا في أرض العدو فينبغي أن نتستر ما استطعنا.
Page inconnue