فقالت طوعة: قد حملوه إلى القصر.
قالت: وماذا يفعلون به هناك؟ أظنهم سيقتلونه، قبحهم الله! ما أقسى قلوبهم!
فجعلت طوعة تخفف عنها، ولم يمض النهار حتى سمعت بمقتل مسلم فانصدع قلبها، وفكرت في أمرها فرأت البقاء لا يجديها نفعا، وتذكرت الشيخ الناسك فهمت بالمسير إليه. •••
وفي صباح اليوم التالي، خرجت سلمى من بيت طوعة وسارت تلتمس كربلاء، فجعلت طريقها من خارج الكوفة لئلا ترى ما تكرهه من فوز الأمويين، فيممت شاطئ الفرات حتى أطلت على سهل مقفر لا شجر فيه ولا عشب ولا ماء، فعلمت أنه سهل كربلاء، ورأت في بعض أطرافه شجرة قد تقادم عهدها وتحتها شبح نائم فعلمت أنه الشيخ الناسك، ولم تكد تصل إليه حتى جلس وقد شعر بقدومها عن بعد كأنه اشتم رائحتها. أما هي فلما رأته لم تتمالك عن البكاء لفرط ما هاج خاطرها من مصير مسلم وحزبه.
فلما رآها الشيخ ناداها قائلا: أراك باكية! كأني بهم فتكوا بابن عقيل؟
فأجابته وقد خنقتها العبرات: نعم، لقد قتلوه شر قتلة . قتلوه ومثلوا به، وفازوا بالأمر دونه، وخابت مساعينا، كأن الله قد كتب علينا الشقاء!
فابتدرها قائلا: قتلوا ابن عم الحسين؟ وكيف قتلوه ولم يخافوا غضب الله وملائكته؟ أعوذ بالله من ظلم الإنسان.
قالت: نعم قتلوه بعد أن ساموه مر العذاب، وكنت أحسب الملائكة تدفع عنه؛ لأنه إنما جاء للدفاع عن الحق! أهذا جزاء نصراء الحق عند الله؟!
فقطع الشيخ الناسك كلامها وقال: رويدك يا سلمى، لا تعارضي أحكام الله، فإننا لا ندرك مقاصده سبحانه وتعالى، وما نحن إلا تراب صنعنا بيده، وهو يفعل بنا ما يشاء لحكمة يعلمها. فأخبريني كيف قتلوه؟
فجلست على حجر بالقرب منه وقصت عليه الحديث وهي تبدي خلال ذلك تحسرها، حتى إذا أتت على آخر كلامها أوغلت في البكاء وجعلت تندب حال المسلمين، وجرها ذلك إلى ندب حبيبها عبد الرحمن فقالت: لست أعارض حكم الله، ولكنني لا أدري الحكمة في ذلك. إن الحسين قام يدعو الناس إلى الحق، وأرسل ابن عمه لنصرته، أفيقتل هذا ويفشل ابن بنت الرسول ويظلم كل من قام بنصرته؟! ألم يقتلوا ابن عمي عبد الرحمن لأنه طالب بدم أبي وانتصر لأهل البيت؟! ألم يقتلوه شر قتلة؟! آه منهم! كيف قتلوه؟! قالت ذلك وعادت إلى البكاء، ثم قالت وقد خنقتها العبرات: كيف ينصر الله قوما يحاربون سبط الرسول ويقتلون كل من قام بنصرته، وخليفتهم مشغول عن شئون الخلافة بشرب الخمور وضرب الطنابير ومجالسة النساء؟! إنه لأمر غريب!
Page inconnue