فقالت: أغمد خنجرك في صدري، وأرحني من رؤيتك.
قال: سأفعل ذلك بعد أن أتركك ساعة تستخيرين فيها نفسك.
قال ذلك وحل عمامته وربط بها أكتافها من الوراء وشدها إلى الأسطوانة، وتناول نقابها وقيد به رجليها، وتركها مصلوبة مكشوفة الوجه وخرج وهو يقول: استخيري نفسك، وسأعود إليك بعد ساعة، فإذا بقيت على غيك أغمدت خنجري هذا في صدرك وتركتك بين هذه الخرائب طعاما للغربان. وإذا رجعت عن غيك سرت بك مكرمة إلى الكوفة.
خرج عبيد الله وغادرها مصلوبة تئن من ضغط الوثاق، فصغرت الدنيا في عينيها، وعلمت أن العفة لا تصان إلا إذا فديت بالروح، فآثرت الموت، ولكنها استثقلت أن يطول عذابها على غير طائل، وودت لو أنه أسرع في قتلها لتنجو من العذاب ، ثم تذكرت شيبوب وشق عليها موته في سبيلها على غير فائدة، وعادت تفكر في سبب مجيئه إلى تلك الديار فلم تجد سببا سوى أنه رأى الركب مارا بالغوطة فلحق به التماسا للطعام.
وظلت سلمى مصلوبة على تلك الأسطوانة وأفكارها تائهة في عالم الخيال، وهي تستعيد ذكرى عبد الرحمن.
الفصل الرابع عشر
سلمى والناسك
وفيما هي غارقة في لجج الهواجس سمعت أنينا، ثم رأت شيبوب مسرعا إليها وقد جمد الدم على جرحه وانسكب على كتفيه إلى قوائمه، وقد فتح فاه واندلع لسانه وهو يلهث، فادته سلمى فدنا منها وذيله لاصق بساقيه، ثم ألقى نفسه بين رجليها وقد أخذ منه التعب مأخذا عظيما، وأغمض عينيه ومدد رجليه وهو يئن أنين النزع.
ولم تكد سلمى تتأمله وتأسف لحاله، حتى رأت الشيخ الناسك بين يديها وهو يحل وثاقها بأسرع ما يستطيعه الشاب في عنفوان شبابه، فبغتت لرؤيته ولم تفه بكلمة، وكانت حركاته وإشاراته تشير إليها أن تسكت، فلما حل الوثاق أومأ إليها أن تسرع أمامه فأسرعت ثم حمل كلبه على ذراعيه وسار حتى سبقها، فسارت في أثره لا تنبس ببت شفة، ولكنها استغربت ذلك الاتفاق وعدته من قبيل المعجزات، وكان الشيخ خلال سيرهما ينثر التراب على آثار الدم في الطريق حتى لا يستدل بها أحد إلى المكان الذي قصداه.
وبعد مسير نصف ساعة بين الأحجار والعمد، وصلا إلى باب ضيق انحدرا فيه على درجات غير منتظمة والكلب على ذراعي الشيخ، وقبل الدخول عمد الشيخ إلى حجر سد به الباب حتى لا يشك الذي يراه أنه خال مهجور، ثم دخلا وقد اختفيا عن العيون، وسار إلى مصطبة تحت الأرض لا ينفذ إليها النور إلا من شقوق الباب، فجلس الناسك وأجلسها، ووضع الكلب بين يديه على المصطبة، وأخذ في البكاء والنحيب وهو يخاطبه، وسلمى ساكتة تنظر إلى ما يبدو منه، فإذا هو يقول: أسفي عليك يا رفيقي وصديقي، وا حسرتاه عليك أيها الخادم الأمين. لقد ختمت حياتك بشهامة يعجز البشر عن مثلها. إنك حيوان أعجم ولكنك خير من الناطقين؛ لأنهم ينطقون بالباطل ويستخدمون تلك الهبة السامية لارتكاب المنكرات وإتيان المعاصي، وأنت لا تعرف غير الخير، صحبتك منذ بضعة عشر عاما وأنت رفيقي وأنيسي. صحبتك بعد أن مللت صحبة الآدميين وعرفت شرور بني الإنسان. ما أبلغ عجمتك! وما أقبح نطقهم! نعم إنك حيوان أعجم ولكنك أنقذت نفسا ناطقة. أنقذت هذه النفس الطاهرة من منكر أوشك أن يرتكبه معها إنسان يزعم أنه أرقى منك خلقة وأسمى عاطفة، وهو لا يفوقك إلا باقتداره على بث الدسائس ونصب المكائد. قوتل الإنسان، ما أكبر دعواه وأقل خيره! وهو يفتخر أنه سيد المخلوقات. ما صحبتك إلا وأنا عارف فضلك وناظر خيرك، ولكنني لم أكن أعلم أن هذا مصيرك، وما حسبت أنك سائر إلى الموت قبلي. قال ذلك وهو ينظر إلى كلبه، والكلب يتمطى ويختلج ويجيل عينيه حوله ويعاني عذاب النزع، وسلمى تنظر إليهما ولا تتمالك عن البكاء، وقالت في نفسها: إذا كان الشيخ يبكي كلبه لأمانته وصدق مودته، فكيف لا أبكي حبيبي وابن عمي وقد ذهب ضحية أمانته في خدمة الحق؟!
Page inconnue