أما جورج حكيم
حين تجددت المفاوضات في هذا العهد، كنت - وهذا ثابت - أول من قال إن الوحدة الاقتصادية لن تتحقق لأسباب؛ أحدها يكفي، وهو أن دمشق لا تريدها، وهذا قول أريد أن أردده الآن، مثبتا إلى جانبه أن أشهى ما لدي أن أكون مخطئا.
ولعل ظهور جورج حكيم في الحكم ظاهرة فريدة؛ فهو رجل علم وإخلاص، لا تدعمه قوة سياسية. هذه أمور يعرفها الناس، أما ما لا يعرفونه فهو أن هذا الفتى الأملد صلب الروح، هكذا يشهد له رفقاؤه في السجن ، وكان جورج حكيم مريضا يشكو قرحة في معدته، وكان من أصلب المساجين على العذاب؛ لذلك لم يأت موقفه من شركات الزيت مفاجئا للذين يعرفون الوزير حكيم، وإنه من الجريمة أن نحاول إغناء الخزينة اللبنانية بصرف صغار الموظفين، فيما نحن لا نتخذ خطوة حاسمة لإغناء الخزينة بجباية عائدات معقولة من شركات عقدت اتفاقياتها مع عهد فساد.
إن الملايين تنصب على الخزينة اللبنانية، لو أعلن الشعب صرخة: «اقفلوا الأنابيب.» وماذا يصير إن أقفلنا الأنابيب؟ وحياة شرفك سنسمع صرخات التأييد من شعوب الولايات المتحدة وبريطانيا.
بيضة الديك
وفي سنة 1952 سجلنا انتصارا واحدا في منظمة الأمم، لم يكن انتصارا حقيقيا؛ لأنه لم ينفذ شيئا إيجابيا، بل رد محاولة إيقاع ظلم بنا جديد. ولقد استعجل اليهود في تقديم مشروع المفاوضة المباشرة بيننا وبينهم قبل أن يستلم أيزنهاور الحكم؛ لأنهم يخشونه. وفي التصويت وقفت أميركا وبريطانيا الموقف المجرم المعتاد إلى جانب إسرائيل، وناصرتنا روسيا لنفس السبب الذي من أجله وقفته ضدنا في التقسيم؛ مصالحها.
خلع الخليع
وفي مصر انتحر عاهل آخر بصورة نهائية. لسنا في معرض اجترار الحوادث ولا إعادة نشر ما هو منشور، فليقتصر التعليق على القول إن محمد نجيب - وقد يشمل اسمه الضباط التسعة الذين يقال إنهم يسددونه - أثبت للمعسكر الغربي أن حركة وطنية إصلاحية ليس من المستحيل قيامها في العالم العربي من غير أن تستمد قوتها من عناصر رجعية أو معادية للغرب، بل يشوقها أن تتعاون مع الغرب على صعيد الكرامة والمساواة.
أما المشاكل التي تواجه رجل مصر، فهي اقتصادية أكثر منها سياسية، وجاء تدهور أسعار القطن يقيم أمامه مصاعب جديدة، وليست مشكلة السودان كما يتوهم الناس مشكلة قومية أو سياسية، فمصر تقبل - وقد تفضل - أن تقوم في غد دولة سودانية مستقلة لولا معضلة المياه. إن النيل ينقص عن حاجات مصر، يجب بناء الخزانات الهائلة لا لتؤمن الري في وادي النيل على نطاقه اليوم، بل على نطاق أوسع بكثير، وإلا فلا رجاء للنهوض بالفلاح المصري من هوة تعاسته . وكان قد سبق لبريطانيا أن أعلنت في الماضي البعيد أن مياه النيل من نبعه إلى مصبه هي ملك لمصر، فعلت ذلك لا حبا بمصر، بل دفعا لمطامع استعمارية أوروبية، كألمانيا وفرنسا، من السطو على هذه المياه أو البلدان التي تمر فيها، وقد عنت حينئذ بلفظة «مصر» المستعمرة البريطانية التي كانت آنذاك إنكلترا موقنة أنها باقية فيها إلى الأبد. فإن استقل السودان اليوم فمن الطبيعي أن يذيع فورا أن إعلان بريطانيا فيما مضى عن ملكية مياه النيل لا يربط الدولة السودانية المستقلة، فتقع مصر إذ ذاك في مشكلة حيوية، وإن بقي السودان تحت سلطة إنكلترا بقيت مصر كذلك تحت رحمة الإنكليز، وقد تعقدت الأمور - بل قد تكون بريطانيا قد عقدتها - حين بنت الإنشاءات الكبرى فرفعت بحيرة فكتوريا - منبع النيل - أقداما ثلاثا، ودرست مشاريع، وبدأت بتنفيذ مشاريع سدود تبلغ قيمة أكلافها مئات ملايين الدولارات.
غير أنه وقد راق الجو بين الدولتين البريطانية والمصرية، ووضح أمامهما أن المصلحة في التعاون، فلن يطول الأمر حتى يجد الخبراء وسيلة لتوزيع المياه، واستغلال الموارد والحلف العسكري.
Page inconnue