وما دمنا قد أتينا على ذكر ضحايا التقولات، فإنه ليسرني أن أثبت هنا شهادة فوزي القاوقجي بأحمد شراباتي، وقد كان هذا وزيرا للدفاع في الجمهورية السورية إبان حرب فلسطين، قال فوزي: لقد عرفت أحمد شراباتي في بغداد في ثورة 1936 الفلسطينية، وسنة 1948. وإني أسجل أن هذا الرجل - أحمد شراباتي - هو مثال الوطني المندفع لخدمة بلاده ، وقد أسعف جيش الإنقاذ في فلسطين، كما أعاننا من قبل في بغداد بنخوة عز نظيرها.
صانع التاريخ يجب أن يفهم التاريخ، وفوزي القاوقجي يفهم التاريخ الذي ساهم بصنعه، ولا «يتفهم» هذا التاريخ الذي أهمله وأهمل رجاله. السياسة تخرب الجيوش، والجيوش التي لا يساندها سياسيون حكماء مخلصون تصبح تضحياتها هدرا. القاوقجي يعلن نفسه أنه عربي، وكل ما هو عربي يهزه، ولكنه يعتقد أن الهلال الخصيب، بل بلاد الشام هي قلب العروبة وسيفها وترسها؛ فإن أنت خرجت من هذا الهلال الخصيب، أحسست بأن القاوقجي معجب بقبيلة هنا وقطر هناك، ولكن قلبه في قلب العروبة - الهلال الخصيب - وهو مؤمن أن شرط قوة هذا العالم مرتبطة بوحدة الهلال الخصيب، تضعف وتقوى بقدر ما هي هذه البلاد موحدة أو مجزأة. وهو يعتقد أن من يسيطر على «شرق الأردن» يسيطر على العالم العربي، وأن استرجاع فلسطين المغتصبة أهون من استرجاع الأردن المفقود.
وأردد القول - لأنه هو أبدا يردده - أن هذه الأمة أقوى أمم الأرض قاطبة على القتال، وكل ما تحتاج إليه قضية عامة تصهرها وتفولذها، وزعيم يقودها.
والقتال مهنة احترفها، فهو يمارسها من غير عاطفية، فأحب الساعات إليه ساعة تنتهي المعركة، فيشعل النار يغلي عليها القهوة، وحوله القتلى والجرحى، وحطام المعمعة، ومثل هذا «السيران» لا يجده متعة إلا الذي نذر نفسه للدم والرصاص. لعل أقرب الناس إلى قلبه مقاتل اسمه حمد صعب قتل إلى جانبه، وسارت في الناس إشاعة أن حمد صعب لقي حتفه إذ هو يحمي القاوقجي بجسده. سألته عن حقيقة هذا الخبر فنفاه؛ إذ إن مصرع حمد صعب وجرح القاوقجي - وهذا ما سيجيء تفصيله في جزء مقبل - كان مفاجأة ما أتاحت لأحد أن يحمي أحدا. وقد سرد لي هذا الحادث بتفصيل طويل، وأعاد القول بأن حمد صعب أثمن رفيق عرفه.
ولكنه فاه بهذا القول من غير آه ولا زفرة ولا حسرة، بل زاد: «أشعر أنني لو نزلت إلى الميدان من جديد، فإن في غياب حمد صعب فقدان إحدى ركائز القتال الهامة.» وانساب الحديث إلى مواضيع ثانية.
وتبين لي من معاشرته التضارب في المسلك الذي يكاد يكون ميزة لكل عظيم؛ فهذا الذي بز أعداءه بخداعه الحربي، ومفاجآته، وتضليله لهم، عاش حذرا في الميدان وخارجه، يسيء الظن حتى ببعض رجاله. هو نفس القاوقجي الذي لقيته في السراي إبان حرب فلسطين، وراح يقص علي أنباء أزمات القتال من غير أن يعرفني. وهو هو الرجل الذي يعيش اليوم على ألف ليرة في الشهر، خصصتها له الحكومة اللبنانية بناء على توصية اللواء فؤاد شهاب في عهد بشارة الخوري، ولا يشغل باله أن هذه الألف ليرة لا تكفيه، ولا تؤمن معيشة الثمانية الذين ينفق عليهم. وعلمته التجارب القاسية التي لقيها مع الذين اتجروا باسمه في الكويت واليمن، وهو الذي دفع إلي بمذكراته، وهي كل ما يملكه في الحياة من مادة، ووقع عقدا بيننا أعتقد أنه لم يقرأه. فعل ذلك بعد أن رفض العروض الكثيرة المغرية، وبعضها من صحافة عالمية؛ ذلك لأن إيمانه الأصيل العميق ببني قومه ما قطع عليه طريق الثقة بهم أن بعضهم غدر به، ولغير سبب افترى عليه وحقره. إنه يبيع من أثاث بيته باسما قطعة بعد قطعة من غير خجل ولا آه!
فوزي «باشا» جاءه اللقب من الملك عبد الله، وأصدقاؤه ورواد بيئته القلائل ينادونه «باشا»، و«بك»، وينادونه «فوزي». إنه لا يهزأ باللقب الذي يحمله شأن من هو حقيقة يعشقه ويتظاهر بالسخرية منه.
ولكنه لا ينتفخ به غرورا، فيقول مثلا: «وصلنا بغداد»، ولكن رفقاءه هم الذين قالوا لي إن السيارات التي استقبلته في بغداد امتدت نحوا من عشرين كيلومترا. إنه لا يذكر الاستقبالات، ولا مظاهر الإجلال، ولا المظاهرات التي أقيمت له في الماضي؛ لأن كل ذلك لا يهمه، ولو أن في نفس هذا الرجل وحلا من حقارة، أو كفرا بأمته، لأشغلت باله الرصاصة في رأسه؛ فأذنه اليمنى لا تسمع، وعينه اليسرى لا ترى، ولكان تطلع إلى أولاده وأكثرهم أطفال، وإلى أفق مسود يتقلص حوله، وإلى أثاث بيت ينقص شهرا بعد شهر ؛ لأنه يباع شيئا فشيئا، وإلى وطن رش عليه دماءه فكافأه كما كافأ رفقاءه بالإهمال والاتهامات. إنه لكان تطلع إلى كل هذا فجن أو انتحر. ولكن العظمة الحقيقية تشيع في النفس الطمأنينة والرضا بما فعلت، فلا تعود متحرقة متشوقة إلى مظاهر التقدير والتعظيم، وتغرس في النفس حصانة تزلق عنها سهام الانتقاد والتجريح. إنه واثق بمستقبله ومستقبل أولاده؛ لأنه واثق بمستقبل أمته. صانع التاريخ يفهم التاريخ، وهذه الانحناءة في ضعف أمتنا هي حال عابرة ولا ريب؛ ذلك إيمان هذا الجندي الذي هو في نظري أعظم جندي أنجبته بلادنا بعد «هاني بعل».
وتلك الكمية المجهولة، الإكس
x
Page inconnue