ما أنا برجل عسكري، وكل القتال الذي قمت به كان نضالا غير متكافئ بين طائرات تحوم فوق رأسي، وترمي بالقنابل على مختلف الأبعاد من ملجأ كمنت فيه، وكل الجيوش التي رافقتها لم تتلق مني من الضربات البكر إلا شتائم باللغة العربية كنت أهمس بها حين يبتعد عني سجاني الياباني. ولكني تحققت من أحاديث فوزي القاوقجي ما يجب أن أسجله كي يصبح نذيرا إن رجع هذا المحارب إلى الميدان، وقد يصلح هذا التعليق أن ينبه ناقدا عسكريا يبغي أن يبحث كفاح هذا الرجل من وجهة تقنية صرفة.
يخيل إلي أن القاوقجي لا يقيم وزنا للآلة، وأن الهيجاء في نظره هي عبارة عن مقاتلين وقائد يفولذهم إيمان. إني استمعت إليه وتحدثت إلى بعض رجاله. هو في الميدان وقبل المعركة يعد لها، ويأخذ جميع التأهبات: البواريد، الخرطوش، المؤن، كل شيء. ولكني في نقاشي معه شعرت بأنه يكاد يحتقر الآلة، فلا المصفحات، ولا الدبابات، حتى ولا الطائرات تشغل من سرده وأفكاره وخططه ما يجب أن تشغله. لسواي أن يحقق في هذا وأن يصدر حكمه، غير أنه في القراءة الأخيرة لهذه المذكرات انتفض صاحب المذكرات، وأوضح رأيه في الموضوع معلقا على كلامي: «أنا لا أحتقر الآلة، ولكن الآلة - بيد الجبان - جبانة. والشرط الأول للظفر هو روحية المقاتل. في معاركنا استولينا ببنادقنا على المدافع، وبها أسقطنا طائرات. في معركة «الرمية»، كان سلاحنا السيوف والبواريد؛ فغنمنا المصفحات والدبابات. في جبل الدروز والغوطة سيطرت النخوة على كل معدات العدو وآلياته.
وفي معارك سنة 1948 كانت آليات «جيش الإنقاذ» بغالا حين دخلنا فلسطين، وانتهى الأمر إلى يوم اغتصبنا من آليات العدو الكثير بينها 42 دبابة، ثم إني أحسب في حروبنا المقبلة سيكون غزاة بلادنا أبدا متفوقين علينا بالمعدات، وليس لنا إلا أن نبحث عما في أمتنا من بطولة أصيلة.
أولى مغامراته أثارها حافز تودد إلى امرأة أراد أن يغزو قلبها بشجاعته، ترى أتسكن قلب هذا الرجل جنية ترغمه أبدا إلى الغمار من أجل إرضائها؟! إذن فهل كانت ثوراته والدماء التي أريقت نزوات فروسية لا معنى لها ولا مبرر؟
قد نستطيع الجواب على هذا حين نستكمل السيرة، لا في هذا الجزء الأول، بل في الأجزاء المقبلة.
هذا الإيمان العميق ببني قومه، أكان في القاوقجي مدا مستمرا أم مدا وجزرا؟
هو يعترف بريبة سطت عليه خلال خسفة عاطفية أصيب بها سنة 1922.
كان إذ ذاك في حماة، ضابطا في الجيش الفرنسي والشعب في ركدته، ومظاهر الخضوع في طبقاته، حتى إن بعض رجال الدين كانوا يأتون إلى الفرنسيين، ويفسرون لهم القرآن الكريم على أنه نبوة بظهور الفرنسيين منقذين للإسلام. أدار القاوقجي نظره فإذا بتركيا دولة تتقاوى وعلى رأسها جندي اسمه مصطفى كمال تصدى لقتال دولة ببقايا جيش مهزوم، فثار لفراع جيوش لم يعد جنودها. من هي تركيا؟ إنها أمة، أين هي من أمتنا؟! والجندي التركي أين هو من جندينا؟ ومصطفى كمال زملاؤه الأتراك تخرجوا من المدرسة التي تخرجت وبعض مواطني منها، وحاربوا في صفوف الجيش، وحاربنا نحن فيه. أنا الذي أنقذته، ولم يكن هو الذي أنقذني، كيف تصبح تركيا دولة ذات شأن فتطرد العدو من أراضيها، وتتصدر المجالس في المؤتمرات، وتكنس بضربة واحدة عناكب الرجعية، ونحن هنا في بلادنا مستعبدون، أهمنا شأنا أكثرنا طواعية للمستعمر؟ أحقا أنني أفهم أبناء قومي وتاريخ أمتي؟ أنا مخطئ ولا شك، روح الصراع تلاشت فيهم. كانوا في الزمن البعيد أبطالا، وجاءت حقبة فتحت فجوة بينهم وبين النضال، فانظر إلينا! عبيد تكدح من أجل العيش لا إباء ولا طموح ولا جرأة. التاريخ علاك، شهور مرت عليه والحزن والريبة واليأس ملء قلبه، وجاءت أنباء ثورة في جبال العلويين، ثورة في جبل الزاوية، وفي دير الزور، ثورة في جبل الدروز ، إذن فالحياة هي أبدا تنبض في بني قومي وتفور.
أنا الأعمى الذي لا يراها، أنا الملحد الكافر. سألته لماذا لم يلتحق بالقوى العربية البريطانية في ثورة الشريف حسين على الأتراك. لقد أجاب على هذا بمذكراته، وشرح لي أنه استبق الحوادث، فأدرك أن البريطانيين كانوا على أن يمزقوا بلادنا ويستعمروها، وأنه كان أسلم لنا أن نبقى تحت حكم الأتراك وحدة من أن يستعمر البريطانيون نتفا من بلاد، وقطعا من أمة تسمي نفسها دولا. وهو كذلك يقول إنه رأى في ذلك الحين أن تصفية أمورنا مع الأتراك إن استمروا مستعمرين كان أهون من تصفيتها مع الإنكليز، وليس لي أن أتثبت من هذا الرأي، أنشأ خلال الحرب الأولى أم بعدها بسنوات. أريد أن أزيد على هذا الإيضاح أن شرفه كجندي، وروح الولاء للفريق الذي يقاتل فيه، وعنفوانه العسكري قد تكون بعض الأسباب التي منعته من نقل ولائه إلى المعسكر الذي يقاتله.
بالرغم أنه اجتمع إلى الكثيرين من رجالات الدنيا: بيرون، مصطفى كمال، عصمت أينونو، فيصل الأول، نوري السعيد، الأمير عبد الكريم، الملك سعود، كان يلفظ أسماءهم كما يلفظ أي اسم آخر، لا خشوع ولا استخفاف، غير أنه مرة واحدة حين جاء على اسم «فون لايزر» قال: كنت بمعية الجنرال فان ليزر. لعل في نفسه بقية من خشوع لشيء اسمه ألماني، وفون ليزر هذا كان قريبا للعائلة المالكة القيصرية «هوهنز لرن»، وقد أرسل إلى الجبهة مرفقا بأمر جرماني عسكري سري: «يجب أن لا يموت.»
Page inconnue