أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم
ثم أفضى ذكر المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقا، وتلا فيه قوله تعالى:
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم
وأسرف الخطيب في ترويع الخليفة وتقريعه، ولم يحسن السياسة في وعظه؛ فاستشاط الخليفة غضبا، وأقسم ألا يصلي خلف الخطيب الجمعة أبدا، فقال له الحاكم: وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟ فزجره أبوه وانتهره وقال: أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه وحلمه لا أم لك يعزل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد؟
مثال آخر: شنع أحد المؤرخين على أحد الملوك المعاصرين في الأندلس، فخنق ابن الملك، وهم بقتل المؤرخ، فلما شعر أبوه بذلك قال له: إليك عن هذا الفكر الخبيث، ولئن قتلته لأكونن أنا المطالب بدمه. تقتله ليعيرنا الناس بأننا نقتل مؤرخينا. حتى إذا مضت أيام دخل المؤرخ الحمام ليستحم، فلما خرج ليلبس ثيابه رأى فيها صرة تضم ألف دينار ورقعة من الملك يقول فيها: إن الذي أوصل إليك هذه الدراهم وأنت لا تشعر قادر أن يرسل إليك من يقتلك فكف غرب لسانك عنا، وإذا عدت فأرخت ثانيا لا تشنع علينا أعمالنا. قال دوزي : إذا قيست حرية العرب بحرية الإفرنج تشبه هذه الاستبداد.
وما زال هذا التسامح المحمود حتى انتقل ملك العرب في الأندلس إلى المرابطين والموحدين، وكانوا إفريقيين لا يخلون من شيء من التعصب، وليس فيهم تسامح الأمويين العرب؛ فتبدلت الحال بعض الشيء، وذهبت أو كادت طلاوة تلك المدنية التي أقاموها، وكانت لا بالغربية ولا بالشرقية، فبهر خبرها ومخبرها لولا أن قام الملوك من بني نصر في غرناطة، ورأبوا الصدع، وجبروا الكسر، وكانوا كلما صغرت رقعة ملكهم زادت الرقعة الباقية ارتقاء فتنتقل القوة والنفوس من بلد زال عنها سلطانهم إلى بلاد يرفرف عليها علمهم، ويزيد ملوكهم تسامحا مع ذمتهم ومجاوريهم، وهمة في تعهد صناعاتهم وزراعتهم وعمران مدنهم التي حصنوها بالعدل والإحسان.
هوامش
الفصل الثامن
العرب والإسبان
قال بعضهم: لو لم يقم كلوفيس
Page inconnue