Garden of the Devout
روضة العابدين
Maison d'édition
مكتبة الجيل الجديد
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٣٩ هـ - ٢٠١٨ م
Lieu d'édition
صنعاء - اليمن
Genres
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد:
فإن العلم متعدد الفنون، مختلف الموارد، متنوع الغايات والمقاصد. غير أن العلم بشرع الله تعالى هو أصفى تلك العلوم موردا، وأسماها غاية ومقصدا؛ فالوحي منبعُه، وصلاح الدنيا والآخرة هدفه ومقصده.
ومما لا يخفى أن أهله بين الناس قليل، خاصة في هذا الزمن الذي أقبل أكثر الراغبين في العلم على علوم الدنيا- التي منها العلوم النافعة في نطاقها، ومنها العلوم الضارة- وزهدوا عن علوم الدين.
ومع هذه القلة في الإقبال على علوم الشريعة نجد جفافًا روحيًا، وقلة اعتناء بالعمل، وزهدًا في التوجه نحو العبادة، وضعفًا في ظهور آثار العلم على الأقوال والأعمال والأحوال، إلا من رحم ربي.
والعلم إنما يُراد منه العمل، وحسن الأثر في واقع الإنسان الخاص والعام، وكم من مشتغل جعل جُلَّ همه في التحصيل وإدراك المعلومات، وروحُه تشكو الخواء، وقلبه مملوء بالأهواء، ونفسه غير زاكية، وأعماله لا فرق بينها وبين أعمال من لم يعلم!
وما كان هذا علمَ السلف، بل كان علمهم الجمع بين معرفة النصوص والعمل بها في واقع الحياة، وسيأتي معنا في ثنايا الكتاب ما يبرهن على ذلك.
قال ابن الجوزي ﵀: "رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في
1 / 5
صلاح القلب، إلا أن يمُزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمرادِ بها" (^١).
وقال الخطيب البغدادي ﵀: " … قال أبو خليفة: سمعت أبا الوليد يقول: سمعت شعبة يقول: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ قال أبو خليفة: يريد شعبة ﵀: أن أهله يضيعون العمل بما يسمعون منه، ويتشاغلون بالمكاثرة به، أو نحو ذلك. والحديث لا يصد عن ذكر الله، بل يهدي إلى أمر الله" (^٢).
وهذا لا يعني التقليل من شأن الاجتهاد في العلم، ولكنه يعني أن لا يُلهي العلمُ صاحبه عن العمل، فيكون كمن ينشغل عن غايته بإجالة النظر في جمال الطريق إليها فيشغله ذلك عن هدفه الذي يريد الوصول إليه.
وهذا حال بعض المنتسبين للعلم: أن يصبح العلم هو الغاية له، وليس وسيلة إلى صلاح القلب والروح، بحيث ينشغل بجمع المعلومات والمعارف ويكاثر بها غيره فتكون هي مرادَه، فيبقى علمه بذلك في الذهن ولا يصل إلى شغاف القلب ولا تتمثل صوره في العمل؛ كأن يعمل أعمالًا تخالف ما عنده من العلم، فيدخل صاحبه بهذه الحال تحت قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ [التكاثر: ١].
قال ابن القيم ﵀: "وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لمَّا فُقد منكم علمُ اليقين، وهو العلم الذى يصل به صاحبه إلى حد الضروريات التي لا يشك ولا يماري في صحتها وثبوتها، ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه، وترتبِ أثره عليه؛ فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه" (^٣).
_________
(^١) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: ١٦١).
(^٢) شرف أصحاب الحديث (ص: ١١٤).
(^٣) عدة الصابرين، لابن القيم (ص: ١٥٦).
1 / 6
وقال أيضًا عند هذه الآية: " وأعرض عن ذكر المتكاثَر به؛ إرادةً لإطلاقه وعمومه، وأن كل ما يكاثِر به العبدُ غيره- سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده- فهو داخل في هذا التكاثر؛ فالتكاثر في كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم ولا سيما إذا لم يحتج إليه، والتكاثر في الكتب والتصانيف، وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها، والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره" (^١).
إن قلة حضور الرقائق وأسباب صلاح القلوب صارت ظاهرة في القراءة واللقاءات العلمية والاجتماعية لدى بعض طلبة العلم والدعاة، فإذا كان هذا هو واقع من يشتغلون بالعلم، فما هو واقع البعيدين عنه، الغارقين في الدنيا وملهياتها، بل كيف حال المسرفين على أنفسهم بالخطايا؟ ما حال قلوبهم ونفوسهم؟ فلهذا لا نستغرب كثرة الذنوب وقسوة القلوب وضعف زكاء النفوس وقلة الرغبة في الآخرة. فأين ما نحن فيه من مجالس رسول الله ﷺ ولقاءاته؟
قال ابن رجب: "كانت مجالس النبي ﷺ مع أصحابه عامتُها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب؛ إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر وسماه اللهَ ﴿مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٥] ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٦].
وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. وقال ابن مسعود: نعمَ المجلس المجلس الذي تنشر فيه الحكمة، وتُرجى فيه الرحمة هي مجالس الذكر. وشكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: أدنه من الذكر. وقال: مجلس الذكر محياة العلم، ويحدث في القلب الخشوع. والقلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر:
_________
(^١) الفوائد، لابن القيم (ص: ٣٠).
1 / 7
بذكرِ الله ترتاحُ القلوبُ … ودنيانا بذِكراه تطيبُ
وأما الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فبما يحصل في مجالس الذكر من ذكر عيوب الدنيا وذمها والتزهيد فيها، وذكر فضل الجنة ومدحها والترغيب فيها، وذكر النار وأهوالها والترهيب منها، وفي مجالس الذكر تنزل الرحمة وتغشى السكينة وتحف الملائكة، ويذكر الله أهلها فيمن عنده، وهم قوم لا يشقى بهم جليسهم" (^١).
فهكذا ينبغي أن تكون مجالسنا ولقاءاتنا، إلا ما دعت الحاجة إلى الحديث عنه من أمور الدنيا.
وإني لما رأيت حاجة قلوبنا إلى الترقيق، ونفوسنا إلى التزكية في واقعٍ غلب عليه سلطانُ الشهوات والإعراض عن أسباب سمو الروح؛ استعنت بالله تعالى فكتبت فصولًا في الترغيب والترهيب رأيتها-حسب علمي القاصر- أهمَّ ما يحتاج إليه السالك إلى الله تعالى، وسميت جامع هذه الفصول وسِلْكَها بـ"روضة العابدين" رجاء أن تكون بستان وعظٍ يرِده المسلمُ فيقطف من ثماره أسبابًا لصلاح قلبه، ويشتم من عبيره وسائل لصلاح عمله، وليكون مرجعًا للخطيب والواعظ يفيد منه في خطبه ودروسه.
خاصة أنه ضُمِّن كثيرًا من نصوص القرآن والسنة وأقوال الصحابة في هذا الشأن، وأُكثرَ النقلُ فيه عن أئمة السلوك وأطباء القلوب؛ كالحسن البصري، وابن الجوزي، والغزالي، وابن القيم وابن رجب، وغيرهم ﵏ أجمعين. ولكلام هؤلاء الأئمة نور يتسلل إلى القلوب فيحدث فيها خيرًا كثيرًا.
قال ابن رجب: " كان الحسن إذا خرج إلى الناس كأنه رجل عاينَ الآخرة، ثم جاء يخبر عنها، وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدُّون الدنيا شيئًا" (^٢).
_________
(^١) لطائف المعارف، لابن رجب (ص: ١٥).
(^٢) المرجع السابق (ص: ١٧).
1 / 8
فأقول: ما أحوج الكاتب والقارئ إلى هذه الفصول في الحياة العملية التي ينبغي أن تكون مبنية على خوف الله ورجائه في الفعل والترك، وما أفقرنا إلى حادٍ يقيم القاعد، ويحث السائر، ويسرع بالمبطئ!
وما كتبت هذه السطور إلا لإصلاح النفس أولًا، والنصيحة لغيرها ثانيًا؛ إذ لا يحبس المرءَ تقصيرُه وذنوبه عن النصح والإرشاد لسواه، بل لابد" من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والتذكير. ولو لم يعظ إلا معصومٌ من الزلل لم يعظ الناسَ بعد رسول الله ﷺ أحد؛ لأنه لا عصمة لأحد بعده:
لئن لم يعظِ العاصين من هو مذنبٌ … فمن يعظ العاصين بعد محمدِ!
قيل للحسن: إن فلانًا لا يعظ، ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول؟! ودَّ الشيطان أنه ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء؛ ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟!:
من ذا الذي ما ساءَ قطْ … ومن له الحسنى فقطْ؟
خطب عمر بن عبد العزيز ﵀ يومًا فقال في موعظته: إني لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه. وكتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتابًا يعظه فيه، وقال في آخره: وإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري.
ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذًا لتواكل الخير، وإذًا لرُفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذًا لاستُحلت المحارم، وقلّ الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض، والشيطانُ وأعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر، وإذا أمرهم أحد أو نهاهم عابوه بما فيه، وبما ليس فيه؛ كما قيل:
1 / 9
وأُعلنتِ الفواحشُ في البوادي … وصار الناس أعوانَ المُريبِ
إذا ما عبتُهمْ عابوا مقالي … لِما في القوم من تلك العيوبِ
وودّوا لو كففنا فاستوينا … فصار الناسُ كالشيءِ المشوبِ" (^١)
فنسأل الله أن يصلح قلوبنا وأرواحنا وأعمالنا، وأن يجعل ما نقول أو نكتب أو نقرأ حجة لنا لا علينا، وأن ينفعنا والمسلمين بهذه المواعظ، وأن يوفقنا لكل خير، ويصرف عنا كل شر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه:
عبد الله بن عبده العواضي
فجر يوم الأحد: ٩/ ١١/ ١٤٣٩ هـ
الموافق: ٢٢/ ٧/ ٢٠١٨ م.
_________
(^١) لطائف المعارف، لابن رجب (ص: ١٧).
1 / 10
اعْبُدُوا رَبَّكُم
لقد خلق الله الإنس والجن وأخرجهم إلى هذه الحياة المؤقتة لغاية عظيمة هي عبادته ﷾، كما قال ﷿: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]. وهذا هو تكليفهم في الدنيا لينتقلوا بعده إلى دار الآخرة ليلقَوا الجزاء على هذا التكليف.
فمِن المكلَّفين من عمل لهذه الغاية فعبد الله تعالى وحده لا شريك له ففاز في الدنيا والآخرة، ومنهم من زاغ عن هذه الغاية وعبد غير الله ﵎؛ لأسباب اكتسبها حتى آلت به إلى الشقاء.
قال ابن عاشور: " فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإله، ويسوق إلى توحيده، ولكن كسب الناس يجرف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله، وأسباب تمكنهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع" (^١).
ولأجل هذه الغاية العظيمة أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، فعُرف الرشد من الغي والحق من الضلال.
وكان من بين أولئك الرسل الكرام نبينا محمد ﷺ الذي ختم الله به الرسالات، وأرسله بخير الشرائع وأكملها، وأعدلها وأحسنها هديًا إلى عبادة الله تعالى.
فاهتدى به ﷺ من ﵃ واختارهم لصحبة نبيه ﵊، فكانوا أعبد الناس لربهم بعد نبيهم، وأسرعهم إلى طاعته، والاستقامة
_________
(^١) التحرير والتنوير، لابن عاشور (٢٧/ ٤٤).
1 / 11
على دينه، قال ابن مسعود: "من كان منكم متأسيًا فليتأسَ بأصحاب محمد ﷺ؛ فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمَقَها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقوَمها هديًا، وأحسنَها حالًا، قوم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ﷺ، فاعرفوا لهم فضلَهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم" (^١).
فمشى على هدي أولئك الأخيار في حسن العبادة وسلامتها من جاء بعدهم، وقرب من عهدهم حينما سار على منوالهم وطريقتهم.
ولازال الزمان يمضي بأهله حتى وصل إلى العصر الحاضر الذي برز فيه جفاف العبادة بين الناس، وقل أهلها، وابتعد الخلق كثيرًا عنها، وغشي وجهَها الصبيح بعضُ المفاهيم الخاطئة، فلم يعد في المجتمع إلا قليل ممن يُعرف بالنسك والزهد والعبادة، وصار أكثر أهل التعبد الذين يُقتدى بهم هم أهل القرون الخوالي، فإذا أردنا الاهتداء بسمت عابد أو التذكير بورع زاهد ألفيناه في صفحات الكتب!
وكان الواقع السالف يعج بهم في الطرقات وهم يدعون الناس إلى النسك برؤيتهم وفعالهم قبل دعوتهم بوعظهم ومقالهم.
ولاشك أنه يوجد في عصرنا زهاد ونساك لكنهم قليل بين جمع كثير ليس كحالهم؛ وذلك عندما طغت على الحياة كثرة الشاردين والغافلين.
حقيقة العبادة ومعناها:
العبادة هي: " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار
_________
(^١) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (٢/ ٢٢٧).
1 / 12
والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك؛ من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه. وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه، والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك؛ هي من العبادة لله" (^١).
فالعبادة إذن شاملة لأعمال الباطن وأعمال الظاهر، والأعمال اللازمة والأعمال المتعدية، وتتوزع على أعضاء الإنسان وجوارحه، فللقلب عبادات؛ كالإيمان والإخلاص، وللسان عبادات؛ كالصدق وقراءة القرآن، وللعين عبادات؛ كالبكاء من خشية الله، والنظر في خلق السماوات والأرض بالتفكر، وللأذن عبادات؛ كسماع القرآن والعلم، واستماع حديث الوالدين، ولليد عبادات؛ كالنفقة والجهاد، وللرجل عبادات؛ كالذهاب إلى المساجد، وقضاء حوائج الناس.
وهذا الشمول يعم العبادات المفروضة، والعبادات المستحبة، ويعم عبادات الفعل وعبادات الترك.
ويجمع هذه الأنواع كلها وغيرها اسمُ العبادة الذي يعني: التذلل والخضوع لشرع الله تعالى، بحيث يصبح العبد منقادًا لشرع الله تعالى يحافظ على الواجبات ويسارع إلى المستحبات، ويتجنب المحرمات ويدع المكروهات، ولا يقدِّم على هذا الانقياد والخضوع انقيادًا لهوى أو شهوة، أو طاعة لمخلوق يحول بينه وبين عبادة ربه.
وفي دعاء كشف الهم والحزن: (اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك …) (^٢).
قال ابن القيم: " قوله: (إنّي عبدك): التزام عبوديّته من الذّلّ والخضوع والإنابة،
_________
(^١) مجموع الفتاوى (١٠/ ١٤٩).
(^٢) رواه أحمد (٧/ ٣٤١).، وهو صحيح.
1 / 13
وامتثال أمر سيّده واجتناب نهيه ودوام الافتقار إليه، واللّجوء إليه والاستعانة به، والتّوكّل عليه، وعياذ العبد به ولياذه به، وأن لا يتعلّق قلبه بغيره محبّة وخوفًا ورجاء. وفيه أيضًا: أنّي عبد من جميع الوجوه: صغيرًا وكبيرًا، حيّا وميّتًا مطيعًا وعاصيًا، معافى ومبتلى، بالرّوح والقلب واللّسان والجوارح، وفيه أيضًا: أنّ مالي ونفسي ملك لك؛ فإنّ العبد وما يملك لسيّده. وفيه أيضًا: أنّك أنت الّذي مننت عليّ بكلّ ما أنا فيه من نعمة فذلك كلّه من إنعامك على عبدك. وفيه أيضًا: أنّي لا أتصرّف فيما خوّلتني من مالي ونفسي إلّا بأمرك، كما لا يتصرّف العبد إلّا بإذن سيّده، وإنّي لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فإن صحّ له شهود ذلك فقد قال: إنّي عبدك حقيقة. ثمّ قال: (ناصيتي بيدك)، أي: أنت المتصرّف فيّ تصرّفني كيف تشاء، لست أنا المتصرّف في نفسي. وكيف يكون له في نفسه تصرّف من نفسه بيد ربّه وسيّده، وناصيته بيده، وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كلّه إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيّده أضعف من مملوك ضعيف حقير، ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له، تحت تصرّفه وقهره، بل الأمر فوق ذلك. ومتى شهد العبد أنّ ناصيته ونواصي العباد كلّها بيد اللّه وحده يصرّفهم كيف يشاء، لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجهم، ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفًا لازمًا له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته؛ ولذا قال هود لقومه: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] " (^١).
ولابد أن تكون عبادة الله تعالى قائمة على الاستسلام الكامل له سبحانه، والحب التام له ولما شرع، فإن انفرد أحد الأصلين عن الآخر في العبادة فهي عبادة ناقصة.
_________
(^١) الفوائد، لابن القيم (ص: ٢٢).
1 / 14
قال ابن القيّم: "والعبادة تجمع أصلين: غاية الحبّ وغاية الذّلّ والخضوع … فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبّة لم تكن عابدًا له حتّى تكون محبّا خاضعًا" (^١).
وقال أيضًا:
وعبادةُ الرّحمنِ غاية حبِّه … معْ ذلِّ عابده هما قطبانِ
وعليهما فلكُ العبادة دائرٌ … ما دار حتّى قامت القطبان (^٢)
ومتى ما تم هذان الأصلان فعلى العبد:
أولًا: الإقبال على عبادة الله تعالى بما جاء عن الله أو جاء عن رسوله ﷺ، مبتدئًا بفعل الفرائض وترك النواهي، ثم المسارعة بعد ذلك إلى نوافل الطاعات.
ثانيًا: إصلاح السريرة بجعل العمل لوجه الله تعالى خالصًا من شوائب الرياء وحب إرضاء الناس؛ فإن صفاء الباطن وخلوص النية يعظِّم العمل ولو كان صغيرا، وكدرُ السريرة يصغِّر العمل مهما كان كبيرا.
قال ابن الجوزي: " والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت ويتخشع في نفسه ولباسه والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذلك، ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع والقلوب تتهافت على محبته. فتدبرت السبب فوجدته السريرة، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة. فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه. فاللهَ الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر" (^٣).
_________
(^١) مدارج السالكين، لابن القيم (١/ ٧٤).
(^٢) متن القصيدة النونية (٢/ ٣٢).
(^٣) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: ١٥٥).
1 / 15
ثالثًا: اتباع رسول الله صلى الله وسلم في تلك العبادة؛ إذ كل عبادة ليست عليها هدي رسول الله فهي مردودة.
رابعًا: الحرص على إحسان العبادة وإتقانها أكثر من الحرص على كثرتها وكميتها.
فعن معاذ بن جبل ﵁ أن رسول الله ﷺ أخذ بيده يومًا ثم قال: (يا معاذ، والله إني لأحبك) فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك، قال: (أوصيك -يا معاذ- لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) (^١).
قوله: " (وحسن عبادتك) أي: التوفيق لإيقاع العبادة على الوجه الحسن المرضي شرعًا" (^٢).
خامسًا: أخذ النفْس في العبادة شيئًا فشيئًا حتى تعتاد على ما يريد المرء منها، فلا يهجم عليها هجومًا حتى تمل العبادة وتنفر منها بعد ذلك.
سادسًا: الاستمرار والمداومة حتى مغادرة الحياة، والبعد عن الملل والانقطاع من غير عذر يوصل إلى ذلك، ولعل ذلك يعين على حسن الخاتمة.
قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩]. يعني: الموت.
سابعًا: البعد عن الانصراف عن العبادة إلى التعلق بالدنيا واللهث وراء شهواتها، فمن خرج عن حصن الطاعة ونفر إلى الشهوات وغرق في مستنقعاتها عسر رجوعه إلى حصنه، إلا أن يشاء الله.
_________
(^١) رواه أبو داود (١/ ٥٦١)، والحاكم (١/ ٤٠٧)، وهو صحيح.
(^٢) فيض القدير، للمناوي (٢/ ١٣٠).
1 / 16
العبادة والواقع:
إن الحياة المادية المعاصرة طافحة بمظاهر الغفلة، وأسباب اللهو، ووسائل البعد عن العبادة، ومصايد الجذب إلى مهاوي الانحراف، والعزوف عن كثرة القربات.
"فقد طغت موجة من الماديات على قلوب المسلمين قطعت صلتهم بالله وتعلقهم به، فابتعدوا عن كل مظاهر العبودية والالتجاء الصادق إلى الله، حتى وصلوا إلى ما نراه من حيرة وقلق واضطراب" (^١).
لقد انصرف كثير من الناس إلى الانشغال بالدنيا عن الآخرة؛ فصار الهم الأكبر إن لم يكن كل الهم هو الوصول إلى سعادة العيش الدنيوي البحت بأي وسيلة: حلالًا كانت أم حرامًا، فانصرف بعض الناس إلى طلب المال من تجارة أو وظائف أو أعمال أخرى فصارت هي معبوده الذي لا يفكر معه بمعبوده الذي خلقه.
قال النبي ﷺ: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يعط لم يرض) (^٢). " أراد بعبد الدينار والدرهم: من استعبدته الدنيا يطلبها وصار كالعبد لها تتصرف فيه تصرف المالك؛ لينالها وينغمس في شهواتها ومطالبها" (^٣)، "وصار عمله كله في طلب الدينار والدرهم كالعبادة لهما" (^٤). ومن الناس من انصرف إلى الجاه والشهرة فغدا ذلك هو شغله الشاغل حتى لها به عن العبادة، وباع لأجله دينه، وأفسد به في الأرض، قال رسول الله ﷺ: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه) (^٥). " فمقصود
_________
(^١) منهج شيخ الإسلام في العبادة والتزكية، عبدالله الحيالي (ص: ١).
(^٢) رواه البخاري (٣/ ١٠٥٧).
(^٣) سبل السلام، لابن الأمير الصنعاني (٧/ ١٠٣).
(^٤) شرح صحيح البخاري - لابن بطال (٥/ ٨٣).
(^٥) رواه الترمذي (٤/ ٥٨٨)، وابن حبان (٨/ ٢٤)، وهو صحيح.
1 / 17
الحديث: أن الحرص على المال والشرف أكثر إفسادًا للدين من إفساد الذئبين للغنم؛ لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه، ويأخذ به إلى ما يضره، وذلك مذموم؛ لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعا" (^١). ومن الناس من انصرف عن العبادة إلى العكوف في أحضان الحرام من سكر أو قمار أو فاحشة، ورأى أن ذلك هو الحياة، كما قال بعضهم:
إنما العيشُ سماعٌ … ومدامٌ وغلامُ (^٢)
فإذا فاتك هذا … فعلى العيش السلام (^٣)!!
ومنهم من ساق خطاه وفكره ووقته وحياته للاهتمام بالرياضة أو متابعة أخبار العالم المختلفة، ونسي معها شيئًا يقال له: العبادة، وذهل بسببها عن إلهه الذي أمره بالانشغال به لا بالانشغال عنه، فصارت تلك الملهيات هي الربَّ المعبود والكعبة المقصودة التي إليها يتوجه لا عنها يتجه إلى عبادة ربه سبحانه.
وهناك جم غفير انشغل بالكسل والقعود فصارت العبادة لديه مطلبًا ثقيلًا لا يؤدي منها إلا بعض ما وجب مع تقصير فيما أدى منها.
وفي أفق هذه الظلمات المتكاثفة تقل رؤية الخطى المقبلة على رياض العبادة، والجموع المعتكفة في محاريب التنسك، وتندر البيئة المساعدة على الإقبال على الطاعة وترك ملهيات الحياة التي أورثت الكدر والضيق والحنين إلى الماضي العتيق.
"ولا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بالتزام العبودية لله تعالى والتحرر من عبودية الوثنيات والطواغيت على اختلاف أشكالها وأنواعها، تلك العبودية التي لو استجاب الناس لها لعاشوا في اطمئنان وسعادة وسلام، والتي هي أساس العمل الصالح
_________
(^١) فيض القدير، للمناوي (٥/ ٤٤٥).
(^٢) يريد: إنما العيش الكامل في سماع الغناء وفي شرب الخمر وفي .... !!
(^٣) محاضرات الأدباء، الراغب الأصفهاني (١/ ٣١١).
1 / 18
الذي يثمر نهضة الأمة، وينقذ الإنسانية جمعاء من جحيم العبودية والخضوع للبشر، ويرد عليها تراثها ويرفع منزلتها ويمنحها السعادة والفوز في الدارين" (^١).
العلم والعبادة:
وإن نسيت فلست أنسى حملة العلم ومن يشار إليهم في المجتمع المسلم بالالتزام والاستقامة، ففيهم خيار فضلاء جمعوا بين العلم والعمل، فاتخذوا العلم وسيلة إلى العبادة فأقبلوا عليها وصار لهم منها نصيب وافر، حتى ظهر أثرها عليهم في سمتهم وهديهم وأخلاقهم ومعاملتهم، وزهدهم عن الدنيا وتعلقهم بالآخرة، فهذا هو العلم النافع الذي يكون حجة لصاحبه.
وهناك طائفة أخرى ليس لهم من العلم إلا خزن المعلومات، وتجميع المحفوظات، وأما الإقبال على كثرة العبادة والتحلي بالورع والزهادة، والتخلي عن لهو الدنيا؛ فإنما هي أخبار يقرؤونها عن أهلها في الكتب، وقد يعظون بها الناس، أما هم فليسوا مقصودين بذلك!
ولهذه الحال المؤسفة ظهر مرض بين بعض حملة العلم أو من يعدون بين الناس من المستقيمين -إلا من رحم الله- ألا وهو النزوع عن المسابقة إلى العبادة، أو تركُ العمل بما حملوا من العلم وعرفوا من الحق.
فصار بعضهم كغيرهم في التلهي بالدنيا، والانشغال بزخارف العيش، وقلة النشاط في الجانب العبادي، وظهور بعض المعاصي والانحرافات. والعلم لا ينفع العبد" إلا باستقامة قلبه، وإلا عاد العلم عليه فصار جهلًا، وعاد العمل فصار ضررًا، مع أن فساد قلوبنا هو الذي فرق بيننا وبين سلوك طريق الاستقامة، والاتباع للقوم الذين يصلحون عند فساد الناس" (^٢).
_________
(^١) منهج شيخ الإسلام في العبادة والتزكية، عبدالله الحيالي (ص: ١).
(^٢) المدخل، لابن الحاج (٣/ ١٥٠).
1 / 19
قال عيسى ﵇: " يا بني إسرائيل، ما يغني عن الأعمى معه نور الشمس وهو لا يبصرها، وما يغني عن العالم كثرةُ العلم وهو لا يعمل به؟! " (^١).
إن من يقرأ في سير أهل العلم السالفين يجد أنهم كانوا يجمعون بين كثرة التعلم والتعليم وكثرة العبادة، وليس لديهم بين العلم والعبادة انفصام؛ فلهذا تقرأ في تراجم بعضهم: كان عالمًا زاهدًا ورعًا، كثير العبادة، يصلي في اليوم كذا وكذا، لم تفته تكبيرة الإحرام كذا وكذا، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على العمل بالعلم. بل كان أهل الزهد والعبادة بينهم في أعلى الرتب: يقتدون بهم، ويثنون عليهم.
"ذكر في مجلس أحمد معروف الكرخي فقال بعض من حضره: هو قصير العلم، قال أحمد: أمسك، عافاك الله، وهل يُراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ " (^٢).
عن "أنس بن عياض قال: رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غدًا القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة" (^٣).
لذلك لابد من عودة صادقة إلى العمل بالعلم وظهور أثره في واقع المتعلم أو العالم؛ فإنهم أولى من غيرهم في الرغبة عن الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة.
العبادة والفتن:
الفتن والهرج، والقلاقل والاضطرابات قد تلهي المسلم عن العبادة، وكثرة المسابقة إلى الطاعة، وقد يعتذر بها بعضهم لظهور كسله وفتوره وتقاعسه عن بعض الأعمال الصالحة، وحينما تدهم الناس تلك الخطوبُ فإن الغفلة تستولي عليهم، والانصراف إلى الدنيا يكون ديدنهم، وفي ظل تلك الغفلة المستحكمة يُعرف العباد والنُّساك وطلاب
_________
(^١) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (٢/ ١٢).
(^٢) طبقات الحنابلة، للفراء (١/ ٣٨٠).
(^٣) صفة الصفوة، لابن الجوزي (٢/ ١٥٣).
1 / 20
الآخرة، حيث ينتصرون على ضغط الواقع، وضيق نفوسهم، فيقبلون على العبادة التي بشرهم رسول الله ﷺ بكثرة أجرها في تلك الظروف.
قال النبي ﷺ: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) (^١).
"المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد" (^٢).
" قال ابن العربي: وجه تمثيله بالهجرة: أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة" (^٣).
وقال ابن حجر عند شرح حديث: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه) (^٤): " قال القرطبي: كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاش نفسه وما يتعلق به، ومن ثَم عظم قدر العبادة أيام الفتنة؛ كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار رفعه: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) " (^٥).
ثمرات العبادة:
إن المسلم حينما يقبل على عبادة الله تعالى فيؤدي ما فُرض عليه ويجتنب ما نهي عنه، ويسعى إلى المسابقة إلى نوافل العبادة المتنوعة، ويصلح باطنه وظاهره، ويحسن علاقته مع الله وعلاقته مع الناس؛ فإنه سيربح ربحًا وفيرًا، ويجني ثمرات كثيرة في دنياه وآخرته.
_________
(^١) رواه مسلم (٤/ ٢٢٦٨).
(^٢) شرح النووي على مسلم (١٨/ ٨٨).
(^٣) فيض القدير، للمناوي (٤/ ٣٧٣).
(^٤) رواه البخاري (٦/ ٢٦٠٤).
(^٥) فتح الباري لابن حجر (٢٠/ ١٢٣).
1 / 21
ومن تتبع نصوص الوحيين سيجد آثارًا حسنة يظفر بها العابد الناسك خاصة إذا عبد الله تعالى على علم وبصيرة، فمن تلك الثمرات الصالحة على وجه العموم:
نيل الأجر والثواب، وطيب العيش ولذة الحياة، والوقاية من الشيطان، والتوفيق في جوانب الحياة المختلفة، والسعادة في الدنيا والآخرة، والفوز برضوان الله وجنته، والنجاة من غضبه وناره.
دعوة إلى العودة:
فهلمّ أخي المسلم، إلى جَنة العبادة بأبعادها كلها، ورابطْ في محاريبها المضيئة، عاملًا للواجبات، هاجرًا للمنكرات، مسارعًا إلى القربات، مستحضرًا أنك في تجارة رابحة لا يربحها إلا اليقظون والمشمرون والحريصون والمنافسون.
واقتدِ برسول الله ﷺ فإنه كان أعبد الناس واتقاهم، وأسرعهم إلى الخير وأسبقهم إليه، مع كثرة انشغاله وأعباء رسالته ودعوته، ومع أنه كذلك قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
عن عائشة ﵂: أن نبي الله ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورا) (^١).
وأيقظْ نفسك من سبات الغفلة إن كنت غافلا، وانتشل نفسك من لهوِ الحياة إن كنت فيه غارقا، واعتق رقبتك إن كنت لدى الهوى رقيقا، وأطلق نفسك إن كنت في قيد التعلق بالحياة الفانية أسيرا.
فما هذه الحياة إلا للعبادة، وما الفائزون فيها إلا أهل المسارعة والزهادة، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٥] ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا
_________
(^١) رواه البخاري (٤/ ١٨٣٠)، ومسلم (٤/ ٢١٧٢).
1 / 22
طَوِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٦]. " وذكرُ اسم الرب يشمل تبليغ الدعوة، ويشمل عبادة الله في الصلوات المفروضة والنوافل، ويشمل الموعظة بتخويف عقابه ورجاء ثوابه" (^١). وقال: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: ٨] " أي: أكثر من ذكره وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك؛ كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾ [الشرح: ٧]. أي: إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته وعبادته؛ لتكون فارغ البال" (^٢).
عن أبي هريرة ﵁ قال: تلا رسول الله ﷺ: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠] قال: يقول الله: (ابنَ آدم، تفرّغ لعبادتي أملأْ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم أسد فقرك) (^٣).
"أي: تفرغ عن مهماتك لطاعتي، ولا تشتغل باكتساب ما يزيد على قوتك وقوت من تعول؛ فإنك إن اقتصرت على ما لا بد منه واشتغلت بعبادتي (أملأ صدرك) أي: قلبك الذي في صدرك (غنى) وذلك هو الغنى على الحقيقة" (^٤).
فـ "فرِّغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار" (^٥). واعلم أن " الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إليه، وتقل عوائقك ثم لا ترحل إليه" (^٦).
_________
(^١) التحرير والتنوير، لابن عاشور (٢٩/ ٣٧٦).
(^٢) تفسير ابن كثير (٤/ ٥٢٦).
(^٣) رواه الترمذي (٤/ ٦٤٢)، والحاكم (٢/ ٤٨١)، وهو صحيح.
(^٤) فيض القدير، للمناوي (٢/ ٣٠٨).
(^٥) شرح الحكم العطائية (ص: ١٣٧).
(^٦) شرح الحكم العطائية (ص: ١٧٤).
1 / 23
التسليمُ لنصوصِ الشرع
إن الإنسان في هذه الحياة مكلف بالأمر والنهي الذي به سعادته في الدنيا والآخرة، ولا يسعه الخروج عن هذا التكليف مادام من أهله حتى يخرج عن هذه الحياة، بالانتقال من دار العمل إلى دار الجزاء.
فالمكلِّف ربٌّ خالق، والمكلَّف عبدٌ مخلوق، وليس للعبد والأمر كذلك إلا التسليم والانقياد لأوامر سيده ونواهيه، فإذا انضاف إلى ذلك أن هذه الأوامر والنواهي آتية من رب عليم رحيم ازداد الأمر تأكدًا في التسليم لها والانقياد لما جاءت به.
فمصدرها العليم الخبير ﷾ الذي علِم أن التزام عباده بهذه الأوامر والنواهي سيجلب لهم المنافع العاجلة والآجلة ويدفع عنهم المضار الدنيوية والأخروية، وهي بذلك مظهر من مظاهر رحمة الله بخلقه؛ فلرحمته بهم كلفهم بذلك حتى يصلوا إلى سعادة الدنيا والآخرة.
والاتعاظ بنصوص الشرع لن يكون إلا بالتسليم لها والانقياد لما جاءت به، فأكثر الناس اتعاظًا وصلاحًا هم المنقادون للوحي الذين لا يقدمون عليه رأيًا ولا قولًا ولا ناموسًا يخالفه.
عظمة النصوص الشرعية:
إن النص الشرعي- كتابًا وسنة صحيحة- يمتلك القداسة والعظمة بالنظر إلى مصدره، فهو تكليف جاء عن الله عن طريق الوحي الذي يتسم بالعصمة من الزلل والعبث، فيجب لذلك تعظيمه واتباعه؛ تعظيمًا لله تعالى.
قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا
1 / 24