. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) وجعله قيمًا لإقامة أود ذوي الألباب، فلا ترى فيه عوجًا، لا يحوم حول معانيه سوى الاستقامة، لأنها من الكلمات التامات، ولا ينزل بساحته الاعوجاج، إذ هو من المعجزات الباهرات، آياته صادعة وبيناته ساطعة، وزواجره وازعة، وزواخره فارعة، فكما لا يقف على إدراك بلاغته إلا الذوق، لا يسع كنه معرفة معانيه نطاق الطوق، أصفى مشارع موارده عن لوث الحدوث، ووصمه الانصرام، كما حمى شوارع مصادره أن تنعت بما ينمى إلى الانعدام، فما هو إلا من صفات مخترع الكائنات، ونعوت مبدع الأرض والسماوات، منشئ الأحياء ومنشر الأموات.
أحمده على سوابغ نعمه حمدًا يبلغ رضاه، وأسأله الصلاة والسلام على خير خلقه، محمد نبيه ومصطفاه، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، دافع جيشات الأباطيل، قامع صولات الأضاليل، وعلى آله وأصحابه الكرام البهاليل.
1 / 609
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما بعد،
فإن كتاب الله المجيد هو قانون الأصول الدينية، ودستور الأحكام الشرعية، وهو المختص من بين سائر الكتب السماوية بصفة البلاغة، التي تقطعت عليها أعناق العتاق، وونت عنها خطى الجياد في السباق. والموفق من العلماء الأعلام، وأنصار ملة الإسلام من كانت مطامح نظره، ومسارح فكره، الجهات التي تضمنت لطائف النكت المكنونة، واشتملت على أسرار المعاني المصونة، فلم يوفق لتصنيف أجمع لتلك الدقائق، وتأليف أنفع لدرك تلك الحقائق، وأكشف للقناع عن وجه إعجاز التنزيل، وأعون في مداحض الكلام على تعاطي التفسير والتأويل إلا الحبر الهمام: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، شكر الله سعيه؛ إذ مصنفه: "الكشاف عن حقائق التنزيل"، مصنف لا يخفى مقداره، ولا يشق
1 / 610
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غباره. اتضح بيانه، وأضاء برهانه، وعمت أضواؤه، وانجلت سماؤه، تغرق الأفكار في بحار عباراته، ولا تنتهي الأوهام إلى ساحل إشاراته، هزت أريحية الفضل من أعطاف الفضلاء، لاعتلاء ذروته الشامخة، وابتغاء غاياته الباذخة، فكل غاص في تياره لاستخراج درر معان أبهج من نيل الأماني في ظل صحة وأمان، فإن من أراد عظيمًا خاطر بعظيمته، ومن رام جسيمًا راهن بكريمته، ومن هاب خاب، ومن أحجم أخفق.
فقد استخرت الله- مع قلة البضاعة، وقصور الباع في الصناعة- لتصدي شرح مجمله، وحل معضله، وتلخيص مشكله، وتخليص مبهمه، وفسر عويصه، وفك عقوده الموربة، وتبين قيوده المكربة، وانتهاض إحراز قصبات عيون التفاسير، للعلماء النحارير، وخلاصة أفكار المحققين، ونقاوة أنظار المتبحرين، المتقدمين منهم والمتأخرين، لتسهيل وعره، وتيسير صعبه، بعد تتبع مظان العلمين المختصين بالقرآن آونة من الأزمان، والإتقان على الأساليب البديعية، والأفانين البيانية، وتحصيل غرائب اللغة ما لا يكاد إحصاء، ولطائف الإعراب ما لا يضبط إملاء، وعلى نكات علم أصول الدين: فقهه وكلامه، واستنباط فروعه وأحكامه، ولم آل جهدًا في جهات المنقول استنادًا إلى الأصول، وانتساب القراءات المشهورة
1 / 611
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والشاذة، وبيان وجوهها، وكشف ستورها.
هذا: وإن أصعب السبل تقييد القيود المبهمة؛ فإنه بلغ في الغموض وراء حد حل الإلغاز. وهو الذي يعجز الناظر فيه كل الإعجاز. ولم أقتصر على ذلك، بل جمعت معارضات عظماء الشرق، ومناقضات فضلاء الغرب، وتجنبت التعصب في الرد إلا فيما لم يساعد عليه النص القاهر، والنظم الباهر.
وعثرت بعد طول المباحثات على أن معرفة إبراز النظم هي أعظم المطالب، وأسنى المقاصد والمآرب، فإنها مسبار البلاغة، ومعيار البراعة؛ إذ بها تنتقد الأقاويل، ويرجح تأويل على تأويل. ثم إن تر خللًا فانسبه إلى الونى والقصور، وإن تعثر على ما تقر به العين فأحله إلى فيضان النور من جناب سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين ﷺ؛ فإني رأيت- والله الواهب- فيما يرى النائم في أثناء الشروع أو قبيله أنه ﷺ ناولني قدحًا من اللبن وأشار إلي، فأصبت منه، ثم ناولته صلوات الله عليه وسلامه فأصاب منه، وسميت الكتاب بـ:
"فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب"
وبالله أستعين على ما نويته واعتقدته، وأستعيذ من الزلل فيما نحوته واعتمدته.
1 / 612
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر ما يحتاج إلى الكشف من غرائب الخطبة ونكتها إجمالًا وتفصيلًا:
أما الإجمال، فإنه ضمنها جميع ما هو مفتقر إليه من المباحث التي تتعلق بالقرآن المجيد براعة للاستهلال: ساق الكلام أولًا في بيان الإنزال والتنزيل، والترتيب والتأليف، والتمييز والتفصيل، والمحكم والمتشابه، بحيث لزم منه ما قصده من بيان المذهب والقول بحدوثه. فلما قضى من ذلك وطره ثنى بذكر منافعه دينًا ودنيا، وثلث في بيان إعجازه وكيفية التحدي به، وكمية المتحدى به، ومن تحدى معه، وربع في بيان اشتماله على النكت واللطائف، ومدح مستخرجها، وذم من تقاعد عنها، إلى غير ذلك.
وأما على التفصيل فقوله: (الحمد لله) قال الواحدي: "الحمد قد يكون شكرًا للصنيعة، وقد يكون ابتداء الثناء على الرجل. يقال: حمدته على معروفه، وحمدته على علمه وشجاعته".
1 / 613
الذي أنزل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجوهري: "الحمد نقيض الذم، وهو أعم من الشكر. والشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف" فيقال: ما الحمد إذًا؟ أهو اللفظ المشترك بين المفهومين، أم هو اللفظ الموضوع للثناء المطلق كالمتواطئ، أم هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ .
قال المصنف في "أساس البلاغة": "حمدت الله ومجدته، وأحمد الرجل: جاء بما يحمد عليه، ضد أذم. ومن المجاز: أحمدت صنيعه، وجاورته فأحمدت جواره". فتعين القسم الأخير، وسيجيء تمام تحقيقه في "الفاتحة".
قوله: "الذي هو وصلة إلى وصف المعارف بالجمل".
وحق الجملة أن تكون معلومة الانتساب عند المخاطب. وإنزال القرآن على ما وصفه. وفائدة إيراده هكذا: إما للنداء على الجميل بما فيه ﷾ من صفة الكمال، وهي: التكلم بالكلام البليغ الذي بذ بلاغة كل ناطق، وشق غبار كل سابق. وإما للثناء عليه بما أولى عباده هذه النعمة الجسيمة التي هي مفتاح للمنافع الدينية والدنياوية.
قوله: (أنزل)، الأساس: "نزل بالمكان، ونزل من علو إلى سفل، وأنزل الكتاب ونزله. ومن المجاز: نزل به مكروه، وأنزلت حاجتي على كريم".
1 / 614
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإمام والقاضي: "الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل، وذلك لا يتحقق في الكلام؛ وإنما لحقه بتوسط لحوقه الذات الحاملة له، فوصف بصفة حامله لالتباسه به. ويقال: نزلت رسالة الأمير من القصر، وإنما نزل المستمع بها وأداها إلى الناس، وقول الأمير لا يفارق ذاته. ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقفًا روحانيًا، أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به على الرسول ﷺ ويلقنه".
وأما كيفية تلقي الرسول ﷺ [من الملك، فما رويناه عن عائشة ﵂: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ:] "أحيانًا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني، فأعي ما يقول". أخرجه البخاري، ومسلم، ومالك، والترمذي، والنسائي.
1 / 615
القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (القرآن)، القرآن لغة: الجمع، تقول: قرأت الشيء قرآنًا، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض.
أبو عبيدة: "سمي قرآنًا لأنه يجمع السور فيضمها".
وسمي المقروء قرآنًا كما سمي المكتوب كتابًا.
واصطلاحًا: هو الكلام المنزل على محمد صلوات الله عليه وسلامه، للإعجاز بسورة منه. قيل: هذا حد الشيء بما هو أخفى منه، وبما تتوقف معرفته على معرفته.
وأجيب بأن قوله: "بسورة منه" ليس قيدًا للفصل، بل بيانًا له.
واعلم أنه قال أولًا: "أنزل" ثم "نزل" ثم "جعله" إلى قوله: "مختتمًا" لبيان ترتيب النزول، فإنه تعالى أولًا أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزله منه متفرقًا على حسب المصالح وكفاء الحوادث، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح، ونبه عليه بقوله: "مؤلفًا منظمًا، وجعله بالتحميد مفتتحًا، وبالاستعاذة
1 / 616
كلامًا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مختتمًا"، إلى آخره، مع ما روعي فيه من صنعة التجنيس الاشتقاقي. هذا هو المراد، لا ما قيل: إنه قال أولًا: خلق القرآن، ثم غيره تقية؛ لأنه صرح بذلك في قوله: "وما هي إلا صفات مبتدأ" إلى آخره.
ولقائل أن يقول: إنما عدل استدراجًا كما هو دأب البلغاء، وعليه مخاطبات الأنبياء.
قوله: (كلامًا)، الجوهري: "الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير".
الإمام: "تركيب "ك ل م" بحسب تقاليبه الستة يفيد القوة والشدة، وسمي الكلام به؛ لأنه يؤثر في الذهن بواسطة القرع في السمع، ومنه الكلم: الجرح.
ك م ل: الكامل القوة، بخلاف الناقص.
ل ك م: بمعنى الشدة في اللكم، وهو الضرب بمجمع الكف، ظاهر.
م ك ل: يقال: بئر مكول، إذا قل ماؤها، فيحصل منها للوارد الشدة.
م ل ك: يقال: ملكت العجين، إذا اشتد عجنه، ومنه ملك الإنسان؛ لأنه نوع قدرة.
ل م ك: يقال: تلمك البعير، إذا لوى لحييه.
1 / 617
مؤلفًا منظمًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وانتصابه إما لأنه حال موطئة، كقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [يوسف: ٢]، أو مؤكدة كقوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) [الحج: ٧٢] وليس بلازم في المؤكدة أن تكون مقررة لمضمون جملة اسمية، ولا أن يكون مجيئها على إثر جملة عقدها من اسمين لا عمل لهما كما يشعر به ظاهر لفظ "المفصل"؛ لأن ذلك شرط لحذف عاملها على سبيل الوجوب، لا لكونه حالًا مؤكدة.
وإما لأنه بدل من القرآن، وهذا أوجه على مذهبه؛ لما أن الحال زيادة في فائدة الجملة، والبدل هو المقصود في الإيراد، والمبدل كالتوطئة، فيفيد التوكيد لما فيه من التنبيه والتكرير، والإجمال والتفصيل.
قوله: (مؤلفًا)، التأليف: جمع الحروف أو الكلم لتركيب الكلمة أو الكلام، والنظم: هو الجمع مع ترتيب.
الأساس: "هو أليفي وغلفي، وهم ألافي، ولو تألف فلان وحشيًا لألف".
1 / 618
ونزله بحسب المصالح منجمًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: "نظمت الدر ونظمته، ودر منظوم ومنظم، ومن المجاز: نظم الكلام، وهو نظم حسن" فالتأليف يخص اللفظ، والتنظيم يعم اللفظ والمعنى. والتنكير فيهما دل على نوع من التأليف والنظم، لاقتضاء مقام المدح إلى ذلك المعنى، وهو تأليف بديع وتنظيم غريب عجيب.
والتأليف دل على أنه بلغ في الفصاحة أقصى غاياتها، والنظم على أنه انتهى في البلاغة مدى نهاياتها؛ لأن الفصاحة تختص بحسن اللفظ مفردًا ومركبًا، والبلاغة تعم حسن اللفظ والمعنى، كما تقرر في "التبيان". وانتصابهما على أنهما حالان مترادفتان أو متداخلتان، أو صفتان مخصصتان لكلام؛ ليمتاز عن الكلام النفسي عندنا، وموضحتان عند المصنف؛ لأن عندهم: لا كلام إلا هذا، ولا وجود للكلام النفسي.
قوله: (بحسب)، الجوهري: قولهم: ليكن عملك بحسب ذلك، أي: على قدره وعدده.
الأساس: "الأجر على حسب المصيبة، أي: بقدرها".
المعنى: فرقه بقدر ما تقتضيه الأمور السانحة والحوادث المتجددة.
قوله: (منجمًا)، أي: دفعة بعد دفعة، حظًا غب حظ، موزعًا على الأوقات.
المغرب: "أصله من نجوم الأنواء، وقال: النجم هو الطالع، ثم سمي به الوقت، ثم
1 / 619
وجعله بالتحميد مفتتحًا وبالاستعاذة مختتمًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمي به ما يؤدى فيه من وظيفة المكاتب، ثم اشتقوا منه فقالوا: نجم الدية إذا أداها نجومًا، ونجم الدين" وانتصابه على الحال من الضمير المنصوب في "نزله" وهو موافق للتنزيل بحسب التفصيل.
قوله: (وجعله بالتحميد مفتتحًا)، أي: بسورة "الفاتحة"، "وبالاستعاذة" أي: "المعوذتين". فعل ذلك تفهيمًا وتعليمًا لما ينبغي أن يفعل، وقد روينا عن أبي هريرة ﵁، عن النبي ﷺ: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم" أخرجه أبو داود. قال الخطابي: "معناه: الأقطع الأبتر الذي لا نظام له".
وقد تقرر أن من ختم القرآن تحصل له نعمة عظيمة، فيخاف عين الكمال، فيستعيذ بالله حصانة لها، "كان النبي ﷺ يتعوذ من عين الجان وعين الإنسان، فلما نزلت "المعوذتان" أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك". أخرجه النسائي.
1 / 620
وأوحاه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي ذلك الافتتاح وهذا الاختتام رعاية حسن المطلع والمقطع، أما المطلع، فحسنه أن "الفاتحة" كما ترى بلغت في حسن ألفاظها وتنوق معانيها غاية من الكمال، مع تضمنها معنى ما سيق الكلام لأجله- كما سنبينه- وهو المسمى ببراعة الاستهلال.
وأما المقطع فحسنه ما آذن إلى استماع ما بدئ به، فـ "المعوذتان" مشيرتان إلى الاستعاذة، لقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: ٩٨] على أحد الوجهين، ومن ثم قال صلوات الله عليه وسلامه حين سئل: أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: "الحال المرتحل"، قيل: وما الحال المرتحل؟ قال: "صاحب القرآن، يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل". أخرجه الترمذي والدارمي عن ابن عباس.
فالتحميد يقتضي الاختتام بناءً على أن المجمل يقتضي تفصيله، والاستعاذة تستدعي الافتتاح، فلا انقطاع إذًا، كما قال:
فما تقف السهام على قرار … كأن الريش يطلب النصالا
قوله: (وأوحاه)، الأساس: "أوحى إليه وأومى إليه: بمعنى، ووحيت إليه وأوحيت إليه: إذا كلمته بما تخفيه عن غيره. وأوحى الله تعالى إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل: ٦٨]، ووحى وحيًا: كتب".
1 / 621
على قسمين: متشابهًا ومحكمًا، وفصله سورًا وسوره آيات،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وزاد الجوهري: "الرسالة".
قوله: (على قسمين)، انتصب محله حالًا من الضمير المنصوب في "أوحاه" أي: كائنًا على قسمين. انتصب "متشابهًا ومحكمًا" إما على المدح، بتقدير أعني، ليكونا تفسيرين لقوله: "قسمين" تمدح بالمتشابه لما فيه من تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استنباط المعاني ورده إلى المحكم حيث أمكن. ويجوز أن يكونا بدلين من محل "على قسمين" أو حالين من الضمير المستتر في الظرف الواقع حالًا، فيلزم تداخل الحالين.
والمحكم: هو المتضح المعنى، والمتشابه بخلافه. وقد استوعب بهما الأقسام الأربعة من النص والظاهر، والمجمل والمؤول؛ لأن اللفظ الذي يفيد معنى، إما أن لا يحتمل غيره؛ وهو النص، أو احتمل لكن إفادته لذلك المعنى أرجح؛ وهو الظاهر، أو مساو؛ وهو المجمل، أو مرجوح؛ وهو المؤول، والمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، وبين المجمل والمؤول هو المتشابه. وقد اقتبس المعنى من قوله تعالى: (آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران: ٧].
قوله: (وفصله)، هو مأخوذ من قولهم: عقد مفصل.
الجوهري: "هو أن يجعل بين لؤلؤتين خرزة أو من التفصيل بمعنى التبيين".
قوله: (سورًا)، جمع سورة. وانتصب إما على الحال، أو على تضمين "فصل" معنى جعل. أي: جعل القرآن سورًا مفصلًا. والأحسن أن يكون تمييزًا نحو قوله تعالى: (وَفَجَّرْنَا
1 / 622
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأَرْضَ عُيُونًا) [القمر: ١٢] قال: "وجعلنا الأرض كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: عيون الأرض". وكذا القول في "وسوره آيات".
الجوهري: "السور: حائط المدينة، وجمعه أسوار. والسور أيضًا جمع سورة، مثل: بسر وبسرة، وهي كل منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى".
قال المصنف: "هي الطائفة من كلام الله المجيد المترجمة، التي أقلها ثلاث آيات".
فالآية هي الطائفة الموسومة منه بفاصلة فذة التي أقلها ستة أحرف صورة، نحو: (الرَّحْمَنُ) [الرحمن: ١].
هذا التعريف على مذهب الجمهور سوى الكوفيين ظاهر، لأنهم ما عدوا شيئًا من الفواتح نحو (الم) آية، واستقلالها في المعنى ليس بلازم؛ إذ يجوز الفصل بين الصفات، والبدل والمبدل، والصفة والموصوف، كقوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: ٣ - ٤]، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ) [الفاتحة: ٦ - ٧]، (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: ٢ - ٣].
ويعني بالفاصلة: تواطؤ القرينتين من النثر على الحرف الأخير أو الوزن، وهو السجع أيضًا. وإليه أومأ الراغب بقوله: "يقال لكل كلام من القرآن منفصل بفصل لفظي: آية".
1 / 623
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب "المرشد: (الم) عدها الكوفيون آية، واعتبروا في عدها الوزن؛ لأنه كآخر "حليم"، "عليم". وإذا اعتبر المعنى مع الوزن كان أقوى لمذهبهم في عدها آية؛ لأنه ينضم إلى مشابهته الفواصل كونه جملة مستقلة بنفسها.
والآية: العلامة، الجوهري: "أصل آية: أوية بالتحريك. قال سيبويه: موضع العين منها الواو".
الفراء: "هي من الفعل فاعلة، وإنما ذهبت منه اللام تخفيفًا، ولو جاءت تامة كانت آيية".
الراغب: "في بناء آية ثلاثة أقوال:
قيل: هي فعلة، وحق مثلها اعتلال لامه دون عينه كحياة ونواة، لكن صحح لامه لوقوع الياء قبلها كراية.
1 / 624
وميز بينهن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: فعلة، إلا أنها قلبت كراهة التضعيف نحو: طائي في طيئ.
وقيل: فاعلة، وأصلها آيية فخففت، فصار: آية، وذلك ضعيف؛ إذ تصغيرها: أيية، ولو كانت فاعلة لقيل: أوية". واشتقاقها إما من "أي" فإنها هي التي تبين أيًا من أي، أو من قولهم: أوى إليه.
والآية قيل: هي العلامة الظاهرة، وحقيقتها لكل شيء ظاهر هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره، فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته؛ إذ كان حكمهما سواء، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات.
فمن علم ملازمة العلم للطريق المنهج، ثم وجد العلم علم أنه وجد الطريق، وكذا إذا علم شيئًا مصنوعًا علم أنه لابد له من صانع.
وقوله تعالى: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [العنكبوت: ٤٤] فهي من الآيات المعقولة التي تتفاوت بها المعرفة بحسب تفاوت منازل الناس في العلم.
قوله: (ميز)، بالتشديد للمبالغة. الكواشي: "أصل الميز: الفصل بين المتشابهات،
1 / 625
بفصول وغايات، وما هي إلا صفات مبتدأ مبتدع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقال: مزت بين الشيئين مخففًا، وميزت بين الأشياء مشددًا".
قوله: (بفصول وغايات)، قيل: الفصول: الوقوف، و"الغايات": رؤوس الآي. وقد تجتمع الغاية والوقوف، كما في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة: ٣] فالضمير في "بينهن" للآيات، والتحقيق أن الضمير يعود على المجموع من السور والآي، كقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات: ٩]، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) [البقرة: ١١١] والضمير لليهود والنصارى بدليل قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، ويراد بالفصول رؤوس الآي، وهي الفواصل، جمع فاصلة- كما قررناه- وهي بمنزلة السجع في غير القرآن. قال الله تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) [فصلت: ٣]. والغايات: أواخر السور، جمع الغاية، وهي مدى الشيء. والمعنى: فصل عز شأنه القرآن بالسور، وفصل السور بالآيات، وميز بين ذينك الفصلين بالفصول والغايات. وفي هذا التقرير معنى الجمع والتقسيم، والجمع والتفريق.
قوله: (وما هي إلا صفات)، هذا التركيب من قصر الصفة على الموصوف على القلب، أي: ليس التأليف والتنظيم، والافتتاح والاختتام، والتفصيل والتمييز إلا صفات شيء حادث؛ لأن حدوث الصفات يوجب حدوث الموصوف.
قوله: (مبتدأ)، الزجاج: "المبدئ: الذي ابتدأ كل شيء من غير شيء. والبديع: الذي ابتدع الخلق على غير مثال".
1 / 626
وسمات منشأ مخترع، فسبحان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطلع: "البديع الذي يبدع الأشياء، أي: يحدثها مما لم يكن، وكذلك المبدئ، العين والهمزة تتبادلان".
قوله: (فسبحان)، جواب شرط محذوف، وفيه معنى التعجب، قال المصنف في "النور": الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى في رؤية المتعجب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه.
المعنى: إذ لزم من تلك الأوصاف حدوث القرآن، على أنه أحق الأشياء بعد الله ﷾ بأن يوصف بالقديم لكونه قائمًا بذاته خارجًا منه؛ قال الرسول صلوات الله عليه وسلامه: "وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" أخرجه الترمذي عن أبي أمامة، فلينزه المنزه متعجبًا قائلًا: سبحان من استأثر بالأولية والقدم!
وفي (وسم) نكتة: وهي أنه تعالى وحده اختص بصفة الكمال، وأن غيره موسوم بوسم النقصان.
الجوهري: "يقال: وسمته وسمًا: إذا أثرت فيه بسمة وكي، والهاء عوض من الواو". وفيه إبطال مذهب الفلاسفة في الماهيات، وإثبات مذهبه في الصفات".
1 / 627
من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم، أنشأه كتابًا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (استأثر)، الاستئثار: التفرد والاستبداد والاستقلال.
قوله: (بالأولية والقدم)، الجوهري: الأول: نقيض الآخر، والقدم خلاف الحدوث.
الأزهري في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ) [الحديد: ٣] الأول: هو السابق للأشياء كلها، وكان الله موجودًا لا شيء معه، ثم أوجد ما أراد من خلقه، ثم يفني الخلق كلهم، فيبقى تعالى وحده كما كان أولًا.
وقلت: فالأولية التي تقتضي سبق الأشياء كلها مستدعية للقدم، والآخرية التي لم تقبل الفناء بعد فناء المحدثات مشعرة بالقدم؛ لأن المحدث يحتاج في إحداثه على سابق؛ ومن ثم جاء في الأدعية عن سيد المرسلين ﷺ: "أنت الأول ليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة ﵁، فيكون عطف القدم على الأولية من عطف البيان على المبين، وعطف: "ووسم كل شيء" على "استأثر" من عطف أحد الضدين على الآخر؛ للجامع الوهمي.
قوله: (أنشأه)، أي: خلقه على اعتقاده، الجوهري: "أنشأه الله، خلقه، يقال: أنشأ يفعل كذا، أي: ابتدأ، وفلان ينشئ الأحاديث، أي: يضعها".
قطع الجملة لتكون بدلًا من جملة: "أنزل" لكونها أوفى بتأدية المقصود منها، فإنه أجرى على
1 / 628