Chapitres de philosophie chinoise
فصول من الفلسفة الصينية: مع النص الكامل لكتاب الحوار لكونفوشيوس وكتاب منشيوس
Genres
كان التعليم في الصين قبل كونفوشيوس ذا طابع رسمي، وكان المعلمون موظفين لدى الدولة يقوم كل منهم بالتعليم في مجال اختصاص الدائرة التي يرأسها، ثم جاء كونفوشيوس ليؤسس لنهج جديد، فكان أول معلم يمارس التعليم بصفته الخاصة، ودون أن يكون مرتبطا بوزارة ما من وزارات الدولة، وكانت مدرسته أقدم مدرسة في البلاد. وبذلك فقد حول كونفوشيوس مؤسسة التعليم من مؤسسة أرستقراطية تعنى بتعليم النبلاء، إلى مؤسسة ديمقراطية تعنى بتعليم كل راغب في العلم بصرف النظر عن انتمائه الطبقي. وقد روى عنه تلاميذه في كتاب الحوار قوله: «لم أمنع علمي عن أحد، من الفقير الذي أهداني لقاءه حفنة لحم مقدد، وصولا إلى من هم في أعلى المراتب.» وأوصاهم أيضا بقوله: «في تعليمكم للناس لا تميزوا بين الأفراد والجماعات،» وكان يرى أن مسئولية تعليم الرعية تقع على عاتق الحاكم ؛ فقد سأله تلميذ له قائلا: عندما يزداد عدد السكان ماذا نفعل بهم؟ أجابه: يجب أن نعمل على رخائهم. فسأله ثانية: وماذا بعد أن يعمهم الرخاء؟ أجابه: علينا أن نعلمهم. وقد بلغ من تلقوا العلم على يديه خلال حياته، وفق بعض الروايات، ثلاثة آلاف، نعرف منهم اثنين وسبعين تحولوا فيما بعد إلى معلمين أو شغلوا وظائف إدارية متنوعة لدى حكام المقاطعات. وقد قام هؤلاء بجمع أقواله التي سمعوها منه في مناسبات متفرقة، وصاغوا فلسفته على الشكل الذي وصلنا. وكانت ثلة من هؤلاء التلاميذ ترافقه خلال تجواله بين الدويلات الصينية وإقامته لفترة تطول أو تقصر في هذه الدويلة أو تلك، في بحثه عن أمير دولة قوية يتبنى أفكاره في الحكم والإصلاح ويطبقها، فيجعل من دولته نموذجا تتطلع إليه رعايا بقية الدول، وعندها يغدو قادرا على توحيد البلاد ونشلها من حالة الفوضى السياسية والفساد الخلقي والاجتماعي. وعلى الرغم من أنه كان يلقى الترحاب أينما حل، ويقدم له ولمرافقيه مسكنا لائقا وضيافة وافرة، إلا أنه لم يعثر على ضالته؛ لأن أفكاره في الحكم الفاضل كانت أكثر راديكالية من أن يقبلها أحد حكام تلك الفترة. ومع ذلك لم تفتر عزيمته، وأمضى سنوات طوالا في ترحاله قبل أن يعترف بالفشل ويعود إلى موطنه. لقد كان بمقدوره أن يتولى أكثر من منصب عال، ولكنه لم يفعل لأن ذلك سيكون على حساب قيمه ومبادئه.
وقد روى لنا تلاميذه أكثر من قصة تعبر عن تصميمه وعن مثابرته خلال تلك السنوات؛ فقد كان أحد تلاميذه واقفا عند سور المدينة فسأله الحارس: من أنت؟ فأجابه: أنا تلميذ كونفوشيوس. فقال الحارس: آه، إنه الرجل الذي يحاول إصلاح ما لا يمكن إصلاحه. وفي مناسبة أخرى شبه أحد النساك كونفوشيوس بالعازف الذي لا يستمع إليه أحد؛ فقد كان كونفوشيوس يعزف بآلة الأجراس عندما مر به زاهد يدعى إن وي حاملا دلوا، وقال: إنك حقا مصمم على المضي في عزفك . يا لعنادك! إذا لم يطرب لك أحد توقف.
يعتبر كونفوشيوس واحدا من الرجال القلائل الذين أثروا تأثيرا عميقا على الثقافة الصينية بفضل قوة شخصيته ومواهبه العقلية، كما استفادت من تعاليمه كل من الثقافة الكورية واليابانية والفييتنامية؛ فقد كان فيلسوفا سياسيا وأخلاقيا ورائدا في مجال التربية والتعليم، واستطاعت فلسفته أن تهيمن على الفكر الصيني حتى العصور الحديثة. وفي الحقيقة فإن الصيني يعتبر نفسه كونفوشيا حتى في حال انتمائه إلى الأديان الوافدة إلى الصين كالبوذية والمسيحية والإسلام. ولا أدل على ذلك من أن العلامة الصيني المسلم محمد مكين، الذي درس في شبابه اللغة العربية والإسلام في الجامع الأزهر بالقاهرة، كان أول من ترجم كتاب الحوار لكونفوشيوس وذلك عام 1936م.
تميزت شخصيته برقة الطباع والتهذيب والمرح، وعرف عنه حبه للجمال والتأنق في الملبس، وتذوقه لأنواع الفنون لا سيما الموسيقى والغناء. وقد روى عنه تلاميذه في كتاب الحوار أنه بعد سماعه لأغنية أعجبته كان يطلب من المغني الإعادة، ثم يشاركه في الغناء، ولكنه إلى جانب ذلك كان شديد القسوة في نقده لمظاهر الفساد والانحراف والترف لدى الحكام، وما يبديه وزراؤهم ومستشاروهم من تزلف وتفان بدلا من تقديم المشورة الصادقة لهم. وكان محبا للدراسة والتعلم، وكما أنفق حياته في التعليم فقد أنفقها أيضا في التعلم، ويروى عنه قوله إنه إذا صاحب ثلاثة أشخاص لا بد له من أن يتعلم شيئا من واحد منهم.
فيما يتعلق بنتاجه الفكري شاعت آراء تقول بأنه مؤلف الكتب الكلاسيكية الستة أي: التغيرات، والقصائد، والتاريخ، والطقوس (وقواعد الأدب والمعاملات)، والموسيقى، وحوليات الربيع والخريف. وفي مقابل هذه الآراء المتطرفة التي لا تستند إلى وقائع، شاعت آراء أكثر اعتدالا تقول بأنه كان مؤلفا لحوليات الربيع والخريف، التي تؤرخ لفترة من تاريخ الصين تمتد من عام 722 إلى عام 479ق.م.، من خلال رصدها لتاريخ مملكة لو وعلاقاتها مع الدول المجاورة. كما تعزو إليه التعليق على كتاب التغيرات من خلال ما يعرف بالأجنحة (أو التفاسير) العشرة للكتاب، وكذلك تنقيح كتاب الطقوس، وإضفاء لمسة تحريرية على كتاب التاريخ وكتاب القصائد. ولكن الآراء الحديثة بشأنه توصلت إلى نتيجة مفادها أن كونفوشيوس ربما كان مؤلفا لحوليات الربيع والخريف، وواحدا على الأقل من الأجنحة العشرة للتغيرات، ولكنه لم يكتب بالتأكيد بقية الكتب الكلاسيكية، ولم يكن له فضل في تحرير أو تنقيح بعضها.
لقد اعتبر كونفوشيوس نفسه معلما بالدرجة الأولى ينقل إلى تلاميذه معارف الأولين؛ ولهذا قال عن نفسه في كتاب الحوار: «أنا ناقل علم ولست منشئا.» على أن إبداعه تجلى في تفسيره لما ينقل، وإضفائه بعدا أخلاقيا عليه؛ ففي توكيده مثلا على عادة إقامة الحداد على أحد الأبوين بعد وفاته مدة ثلاث سنوات، على ما ورد في كتاب الطقوس قال: «ذلك لأن الطفل لا يترك حضن والديه إلا بعد ثلاث سنوات من ولادته، وعليه بالمقابل أن يقيم الحداد عليهما المدة نفسها.» وعندما كان يشرح بعض ما ورد في كتاب القصائد (أو الأغاني) قال: «في الكتاب ثلاثمئة قصيدة، ولكن جوهرها كلها يمكن تلخيصه في جملة واحدة: أبعد عن ذهنك الأفكار الخبيثة.» وقد سار تلاميذه على نهجه في التفسير، وأنتجوا ثلاثة عشرة مؤلفا احتوت على تعليقاتهم وشروحهم على المؤلفات القديمة تحولت إلى كتب كونفوشية تعليمية.
ولكن إبداع كونفوشيوس لم يبلغ حد التجديد الراديكالي؛ لأنه كان محافظا في تفكيره وسلوكه؛ فقد عاش في أواخر فترة الربيع والخريف التي حفلت بالاضطرابات وما صاحبها من انحلال في القيم والتقاليد، وحاول البحث عن حلول لأزمات البلاد المستعصية، فرأى أن السبيل إلى الإصلاح هو في الحفاظ على تراث الأجداد والقيم الخلقية الفاضلة للماضي. وقد روي عنه في تمجيد الماضي قوله في كتاب الحوار: «لم أولد حكيما، ولكني عشقت تعاليم القدماء، وفعلت ما بوسعي لكي أبلغ ما بلغوه.» ولذلك لم يكن يتساهل في أي انحراف عن قواعد الطقوس سواء ما تعلق منها بالشعائر الرسمية أم بقواعد الأدب والمعاملات الخاصة بكل منصب وبكل شريحة اجتماعية، ونقل عنه أقوال يشجب فيها مثل هذه الانحرافات، ومنها قوله: «إن ثمانية صفوف من الراقصات يؤدين الرقص في قصر رئيس أسرة تشي. فإذا كان يفعل ذلك فما الذي لا يتورع عن فعله؟» وهو هنا يتذمر من اغتصاب الأسر المتوسطة المكانة لطرائق في المراسم والاحتفالات خاصة بالأسر العالية المكانة؛ فالصفوف الثمانية من الراقصات كانت وقفا على الملك، أما الصفوف الستة فلأمراء المقاطعات، والصفوف الأربعة لكبار الموظفين. وفي إحدى المرات انصرف من متابعة طقس القربان الكبير، ولم تعد عنده رغبة في المشاهدة؛ لما رآه من بدع مستحدثة لم تنص عليها الشرائع القديمة.
مصدرنا الرئيسي عن فكر كونفوشيوس هو كتاب الحوار كما يدعى باللغة الصينية، أو المختارات
Analects
كما يدعوه الباحثون الغربيون. وهو يحتوي على مجموعة من أقواله وحواراته مع تلاميذه أو مع الحكام ورجال السياسة في عصره، جمعها تلاميذه المباشرون بعد وفاته، وربما ساهم في ذلك أيضا بعض تلاميذ تلاميذه. وهناك مصدران آخران أقل طولا وأهمية من كتاب الحوار أعدهما تلاميذه أيضا، وهما التعليم الكبير
Page inconnue