وفي أخبار الظاهر العباسي أن أباه الناصر، وهو -على تأخر أيامه- من أشد الخلفاء هيبة وسطوة، قد طالت مدة حكمه سبعًا وأربعين سنة، فلما جاءت الخلافة الظاهر كانت سنه اثنتين وخمسين سنة، فأبطل المُكوس وفرّق الأموال، وأزال المظالم وأظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سيرة العُمَرين (كما قال السيوطي). فقيل له: ألا حفظت الأموال وملأت الخزائن واستمتعت كما استمتع من كان قبلك؟
فقال لهم: لقد فتحت الدكان بعد العصر (يعني أن الولاية جاءته وهو كبير السن)، فمَن فتح بعد العصر إيش يكسب؟ فاتركوني أسارع بفعل الخير، فكم بقيت أعيش بعد هذا؟ (١)
* * *
_________
(١) «الظاهر» من كِرام خلفاء بني العباس، ويستحق أن يعرفه الناس فيَدْعوا له بالرحمة على جميل صنعه وحسن سيرته. وقد نقل ابن الأثير من مآثره الكثير؛ فمنها أنه أعاد للناس الأموال المغصوبة، وأبطل المُكوس، وأعاد الخراج القديم في جميع العراق، ولما أعاد الخراج الأصلي على البلاد حضر خلق وقالوا إن أراضيهم قد يبست أكثرُ أشجارها، فأمر أن لا يؤخَذ إلا من كل شجرة سالمة. ومن عدله أن صَنجة الخلافة (أي العِيار الذي توزن به الدراهم والدنانير) كانت راجحة في المثقال نصف قيراط، فكان عمّال الدولة يقبضون بها ويعطون بصنجة البلد، فكتب إلى العمال والولاة كتابًا يأمرهم فيه باعتماد صنجة الناس، وكتب في رأس الكتاب ﴿وَيْلٌ للمُطَفِّفين﴾، فكتبوا يخبرونه أن الخزانة تخسر بذلك خمسة وثلاثين ألف دينار، فأرسل إليهم كتابه وفيه: يبطل ولو أن الخسارة ثلاثمئة ألف وخمسون=
1 / 47