إننا -أيها السادة- حيال طبقتين من المتعلمين: طبقة المتعلمين في المدارس النظامية والأجنبية، وطبقة المتعلمين على المشايخ وفي المدارس القديمة، وإذا شئتم التجوّز أقول: إن أمامنا شيوخًا وشبانًا، وبين هاتين الطبقتين فرق كبير لا يُدرَك للوهلة الأولى؛ ذلك أن أسلوب التفكير عند الشباب يخالف تمامًا أسلوب تفكير الشيوخ.
أما الشباب: فقد تعلموا إلى حدّ ما طريقة الشك والبحث العلمي، فالشاب لا يطمئن إلا إذا شكّ أولًا، وحاكم المسألة وأدارها على وجوهها وشغل بها عقله، ولكنه يغلو في هذا الشك ويبالغ في تقدير قيمة العقل، فيريد أن يحكم به على كل شيء، مع أن العقل لا يستطيع أن يحكم على ما وراء المادة، والعلم لا دخل له في مسائل الغيبيات.
وأما الشيوخ فعلى النقيض من ذلك: يعرفون روح الاتّباع، ويفزعون من الخروج على المألوف، فما قاله المؤلف أو الشارح فهو عندهم الصواب! مع أن نظرة واحدة إلى تاريخنا التشريعي والسياسي تكفي للدلالة على خطأ هذا الجمود.
كان العرب أمة بدوية جاهلة لا شأن لها في الدنيا ولا خطر، فرفعها الإسلام، الإسلام وحده، حتى جعل منها أمة تعاونت مع الأمم التي شرفت بالإسلام، فأقامت حضارة تعدّ الحضارة العالمية الثانية بين ثلاث حضارات، الأولى حضارة اليونان، والثالثة أوربا. فإذا نحن ذكرنا هذه الحقيقة وآمنّا بأن الإسلام ابن حضارة وتمدن، ثم رأينا مكاننا اليوم من سُلّم الحضارة ونسبتنا
1 / 19