قد كنت أوثر أن أكون قطيطة تصرخ بالمواء،
ولا أعد في قوم يتاجرون بنظم الغناء.
قد كنت أوثر أن أستمع إلى مقبض نحاسي يصر في وعائه وهو يدور،
أو إلى عجلة جفت تصلصل حول محورها.
فذلك كله لا يصيبني بضراس،
كالذي يصيبني به شعر يحز فيقطع.
ولا تقل إن ذلك «هتسبير» يتحدث في سياق روايته، وليس هو بالرأي يدلي به الشاعر، فما لاح لأحد خطر الشعر كما لاح لشيكسبير؛ انظر إلى «هاملت» كيف تردى - أو قل أرداه الشاعر - في المهالك؛ لأنه يحمل بين جنبيه نفسا شاعرة، وينظر إلى الأمور بعين الشاعر، وفي «حلم ليلة في منتصف الصيف» يسوق الشاعر رأيه في الشعراء على لسان الحاكم في أثينا، فيحشرهم في زمرة أشباههم، المجانين ومخبولي العاشقين، وعجيب أن يتفق شيخ الشعراء في رأيه مع شيخ الفلاسفة، أفلاطون! فهل جاءك أن هذا الفيلسوف في «جمهوريته» التي يصور فيها دولة مثلى، قد انتهى إلى ضرورة إخراج هذه الطائفة الخطيرة من حظيرة المجتمع، طائفة الشعراء؛ فهم عنده خطر على الدولة من أي ناحية أتيتهم، هم خطر على الناشئة إن قصد بشعرهم إلى تربية الناشئة، وهم خطر على الأخلاق إن اتخذت أوضاعهم مثلا أعلى للأخلاق، وهم فوق ذلك خطر على التفكير إن وضعت أقوالهم أمام العقول نماذج تحتذى؛ وإن كان ذلك كذلك فما بقاؤهم في جماعة تنشد لنفسها الكمال؟
فإن كان هذا رأي أئمة الفكر في الشعر، فلا ينبغي أن تنال منا سورة الغضب إذ نصادف بين أوساط الناس من يزدري الشعر، ولا يراه جديرا بما ينفق فيه من وقت ومجهود، وحري بنا ألا نطالبه بما يؤيد زرايته؛ فعلينا نحن - أنصار الشعراء - أن نقيم الدليل على قيمته، فالبينة على من ادعى.
ولما كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوره - إذ لا نستطيع أن نجزم بشيء عن الشعر، دون أن نعرف حقيقته وطبيعته - كان لا بد لنا أن نعاود السؤال من جديد: ما الشعر؟ ههنا تجد إجابات عدة، منها ما يقف بك عند السطح، ومنها ما يعمق حتى يضعك في مشكلات ميتافيزيقية قد لا يكون لك بها قبل. فلئن أقنعت هذه الإجابات العميقة الفلاسفة والعلماء، فلسنا نريد اليوم أن نكون من هؤلاء ولا أولئك. ويقنعنا أن نقف مع أوساط الناس حتى نستطيع الفهم والإفهام، فنكتفي من الحلول بأيسرها، ومن الأمور بظواهرها ذات المأخذ القريب؛ فالشعر عندنا هو كلام يصنعه ويؤلف بينه الشعراء. وإن كان صناعة وتأليفا فمم يصنع، ومن أي مادة يتألف؟ ههنا أيضا تصدمك إجابات تضرب من الأمور في أعماقها، فتزعم لك أن الشعر مؤلف من أحلام سرمدية خالدة، أو أنه نفثات تزفر بها القلوب، لكننا سنقف مع أوساط الناس مرة أخرى، فلا نرضى عن مثل هذا القول المبهم؛ وعندنا أن الشعر مؤلف من ألفاظ، ومن ألفاظ فقط، كما تتألف سائر ضروب الكلام، فكل ما للشعر من سحر يفتن القلوب، إنما هو سحر صادر عن الألفاظ، والألفاظ وحدها.
إذن فما هي الألفاظ؟ فما سمعت قبل اليوم أن السحر والفتنة من خصائصها. وأفتح المعجم لأعلم ما «اللفظ» فإذا هو «صوت أو مجموعة أصوات تواضع الناس على أن تكون جزءا من الحديث؛ لتنقل بينهم فكرة من الأفكار.» كلا، لا تحدد نفسك بأوضاع المعاجم، فللألفاظ مهمة أخرى غير هذه التي يعرفها لنا المعجم، بل ليس ما يعرف به المعجم «اللفظ» إلا أقل جوانب اللفظ شأنا؛ فمن ألفاظ اللغة طائفة قليلة جدا مهمتها أن تنقل الأفكار بين الناس، ثم تقف عند هذا الحد لا تعدوه، فالكثرة الغالبة من الألفاظ مثقلة بأشياء غير الفكرة التي تحملها، مثقلة إلى جانب الأفكار بما لا يقع تحت حصر من المشاعر والصور. خذ لذلك مثلا لفظة «أم»، فهي عند المعجم دالة على فكرة مجردة لوالدة مجردة، لا تستطيع أن تصورها لنفسك في «أم» من لحم ودم، فتقف إزاء المعنى المعجمي جامد العاطفة بارد الشعور؛ لأنه لا يعطيك إلا شبحا خافتا لأم تصلح لكل إنسان، وهي لهذا نفسه لا تصلح أما لإنسان، لكنك إذ تستخدم في حياتك الخاصة لفظ «الأم» تجده في ذهنك كائنا حيا، وترى هذا الهيكل الجامد البارد الذي قدمه إليك المعجم منذ حين قد انتفض في قلبك نابضا يتدفق عاطفة ويفيض شعورا، «ففكرة» الأم لم تعد فكرة وكفى، بل نفثت فيها الحياة، فخلقت بذلك خلقا جديدا من العدم أو ما يشبه العدم. ندع المعجم وشأنه في تعريف الأم بالوالدة. أما أنت وأما أنا في حياتنا اليومية فالأم تعني عندنا إنسانة بعينها، تحيط بها هالة وضاءة من ذكريات الطفولة، وترمز إلى ما شهدناه في أيامنا الأولى من أماكن وأحداث، وتفيض على وجودنا وكياننا سيالا دافقا من المشاعر الحية. هذا مثال واحد من ألفاظ اللغة بأسرها، فهي في المعجم جثث هوامد وهياكل جامدة ليس بها حراك؛ لأنها خاوية من اللحم والدم، هي رموز لأفكار. أما إن سلكنا اللفظ في الحديث فقط أضحى جزءا حيا من مجرى الحياة، أو إن شئت فقل إنه بات قطعة من الحياة نفسها، يكسوها اللحم وتجري فيها الدماء، وما لحمها ودماؤها إلا الصور والمشاعر التي تحركها في الأذهان وتثيرها في حبات القلوب، وهذه المشاعر وتلك الصور جزء من معانيها؛ لأن ذلك هو ما تعنيه بالقياس إلينا.
Page inconnue