لكن هذا الاستعداد الخاص لم ينشأ عند القراء إلا في بطء شديد. نعم أثارت صور الحياة الواقعة اهتماما شديدا عند شيكسبير ومعاصريه، لكنهم كانوا في الحياة كالمبهوت الذي يعجب بكل شيء يراه لأنه جديد؛ ولهذا صوروا من الحياة فتنتها وسحرها، ولم يعنوا بجوانبها الفاترة الرتيبة. فلما انقضى قرن بعد شيكسبير وعصره، أخذ اهتمام الناس يزداد رويدا رويدا بالتوافه من مقومات الحياة، وكان هذا الاهتمام الناشئ مرتبطا أشد ارتباط بروح علمي ناشئ، تمثل في إنشاء الجمعية الملكية العلمية سنة 1662م. والبحث العلمي - كما تعلم - يوجه النظر إلى الملاحظة الدقيقة الفاحصة في أتفه الأشياء وأقلها خطرا، ثم إلى تسجيل ما انتهت إليه الملاحظة، تسجيلا هادئا عاريا عن كل تهويل ومبالغة. وساير هذه النظرة التحليلية لظواهر الطبيعة نظرة تحليلية أخرى، تنطوي على باطن الإنسان ودخيلته، تحلل مكنون نفسه، وما يضطرب فيها من خواطر ومشاعر، فكما أرادت الملاحظة الخارجية تسجيل العالم الخارجي كما تراه العين، أرادت الملاحظة الباطنية تسجيل العالم النفسي الداخلي، كما يراه من يستبطن نفسه وينظر في طويته. ولم يكن هذا الاستبطان الذي يسجل خواطر النفس معروفا عند شيكسبير؛ فلا تراه حتى في شخص كهاملت رغم ما يتصف به من تأمل وإغراق في التفكير، لأنه لم يعمد قط إلى تحليل نفسه تحليلا دقيقا. ثم أخذ انطواء الإنسان على نفسه يزداد مع الأيام، وأسرع الخطى في عهد المتزمتين، الذين ما فتئوا يفحصون ما تنطوي عليه ضمائرهم؛ ليطهروها من أدرانها وشوائبها، فترى ظاهرة الاستبطان النفسي بادية في جلاء عند كاتب مثل «بنين»
Bunyan
في كتابه المشهور «رحلة الحاج»، الذي يعد في الطليعة إذا عدت روائع الأدب الإنجليزي، ثم سار التحليل النفسي خطوة أخرى إلى الأمام، وأخذ الكاتب لا يحلل نفسه وكفى، بل يتحسس نفوس الآخرين ليستخرج كوامنها وأسرارها، ليتخذ ما يظفر به من علم وسيلة تعينه على تقسيم الناس أنماطا مختلفة. وهنا ينشأ لون جديد من الأدب يعنى بتصوير الشخصية البشرية، تصويرا يرد هذا الفرد أو ذاك إلى هذا النمط أو ذاك من نماذج البشر. فما إن أقبل القرن الثامن عشر وأخذ يتقدم بأعوامه، حتى اشتدت هذه النزعة في تصوير النفوس المتباينة، لأهل الطبقات الوسطى والدنيا؛ إذ كان زمام الأمر ينتقل إلى أيدي هذه الطبقات رويدا رويدا، بحيث لم يعد تصريف الأمور من شأن الأشراف والنبلاء، بل عهد به إلى الطبقة الوسطى، التي كان قوامها رجالا أثروا عن طريق التجارة. ومن أجل هذه الطبقة الجديدة أخذ يكتب الأدباء، فإليهم خاصة توجه «أدسن» و«ستيل» بما كانا يكتبان من مقالات في الصحف التي أنشآها لهذه الغاية، فقد بذل هذان الكاتبان، وغيرهما من أدباء القرن الثامن عشر، كل جهد مستطاع لتركيز الحياة كلها بما فيها من أوجه النشاط المختلفة، في مقهى أو في مائدة للطعام؛ أعني أنهم يصفون لك هذه المجامع الصغيرة، فيحاولون أن يلحظوا كل شيء مما يجري بها، ثم يعرضون مجرى الحياة فيها بكل جوانبها ودقائقها. فأدب القرن الثامن عشر بدأ يصب اهتمامه على الحياة الواقعة وعلى أهل هذه الحياة الواقعة كما يعيشون وينشطون ويسلكون ويفكرون، فترى أدباء ذلك العهد يتناولون بأقلامهم الرجل العادي، فيلحظون فيه شذوذ مسلكه وخواص تفكيره، مما يميزه عن سائر أفراد الطبقة التي يعيش بينها. واقترن بهذه الاتجاهات الأدبية ما قد نسميه مبادئ الشعور الديمقراطي، وهو الإيمان بقيمة الرجل العادي، الذي لا يحتل في الحياة مكانة ممتازة تملأ النظر. فلما أخذت هذه الاتجاهات تنتشر وتسود، أخذ يسود إلى جانبها جو فكري جديد، كان من شأنه أن ينتج القصة بمعناها الصحيح. وهكذا قدر للقصة أن تظهر في عالم الوجود، بعد أن جاهدت في سبيل الظهور قرونا، كانت خلالها تبدو آنا بعد آن شائهة الخلق ناقصة التكوين، وكتب لها آخر الأمر أن تولد في صورتها السوية على يدي «رتشردسن» في قصة «باملا» عام 1740م كما قدمنا. والعجيب في نشأة القصة أنها - وإن لم تكن قد جاءت نتيجة جهود متصلة وخطوات متتابعة متلاحقة - إلا أنها ظهرت وكأنها وليدة المصادفة، التي لم يهيئ لها منطق الحوادث، فقد هم «رتشردسن» أن يكتب سلسلة من رسائل نموذجية، يستعين بها من لم يصب حظا من التعليم من رجال ونساء الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا، ثم طاف بذهنه خاطر وهو أن يربط هذه الرسائل ربطا يجعلها تحكي قصة، فكان له بذلك قصة «باملا»؛ فهي إذا مجموعة من الخطابات، تبودلت بين فريق من الرجال والنساء، وإنما تعد القصة الأولى في آداب العالم، لأنها تروي حكاية تتألف من رسائل عادية، تبادلها أشخاص عاديون، وعبروا فيها عن حياتهم وشعورهم تعبيرا صادقا أمينا، ومن الخطابات يستخرج القارئ صورة كاملة وافية لحياة خادمة عادية - هي باملا - في حياتها وسلوكها، سجلت أفكارها العابرة وعواطفها الصحيحة كما وقعت، وكما تقع دائما في الحياة الواقعة.
ولم تكد القصة الأولى تشهد الوجود، حتى تبين للعالم أنه قد اهتدى إلى ضالته ، التي ظل ينشدها قرونا طوالا، يلتمس إليها الطريق ولا يجدها، حتى وقعت عليها عبقرية «رتشردسن»، وأخذت القصة منذ ذلك الحين تتبوأ مكانة عالية في نفوس الناس، فما زالت تزداد انتشارا حتى أصبحت أوسع فنون الأدب ذيوعا بين القراء؛ ولذلك أسباب ظاهرة، فالعالم كما نعرفه يشدد علينا قبضته أكثر مما يفعل بنا عالم الخيال، وها هي ذي القصة قد صورت هذا العالم وأهله، والعالم عالمنا والأهل أهلنا. وإذا فالقصة مرآة تعكس كل شيء في العالم، الذي يؤثر فينا بعوامله، ويجتذب انتباهنا ويسترعي اهتمامنا بحوادثه وناسه. أضف إلى ذلك عاملا آخر وسع من انتشار القصة، وهو أن عصر الديمقراطية الذي نعيش فيه، والذي يرفع من قدر الطبقات الوسطى والدنيا، يجد نفسه منعكسا بكل دقائقه في القصة، فالدوافع الكثيرة التي تحركنا باعتبارنا من أهل تلك الطبقات، كلها مصورة في القصة تلتمسها هناك فتراها، فالقصة تمثل لنا أنفسنا وتمثل لنا المحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه، بما فيه من تيارات سياسية وغيرها، ومن ثم لجأ إلى القصة كل من أراد أن ينشر في الناس رسالته السياسية أو الدينية أو الاجتماعية؛ لأنهم يعلمون أنها أقرب الفنون الأدبية إلى قلوب القراء، فتراهم يصورون - فيما ينشرون من قصص هذا العالم نفسه - ما يبشرون به من عقائد ومذاهب وآراء؛ ليبينوا في جلاء أنها طريق إلى السعادة التي ينشدونها للمجتمع، أو تراهم يمثلون في قصصهم هذا العالم، بما فيه من عقائد ومذاهب وآراء؛ ليبينوا أنها لو بقيت بغير إصلاح فالمجتمع مصيره إلى بؤس وشقاء.
لكن هنالك خطرا عظيما في أن يستخدم ذو هوى أداة من أدوات الفن الخالص، فإن عمد فيلسوف سياسي إلى قصة ينشئها، فاعلم أنه لن يصور فيها العالم والناس كما هم في الواقع، بل سيبشر فيها بمذهبه، بأن يبدي العالم في الصورة التي يريدها له، إذا ما اعتنق الناس مذهبه، وهذا القول يصدق على «ولز» إلى حد ما، فقد لبث هذا الكاتب الكبير يمثل العالم الحقيقي في قصصه حينا من دهره، ثم اتجه اهتمامه إلى آرائه الاجتماعية لا إلى الحياة كما تقع، فهو مخلص لمذهبه وعقيدته إخلاصا حدا به ألا يتصور العالم في قصصه، إلا وقد شاع في الناس ذلك المذهب وتلك العقيدة. ومن الجائز أن يصلح العالم بذلك، لكن على حساب الفن القصصي، فقصة لا تصور الواقع كما هو، ليست من ذلك الفن في شيء. وقد يصلح الناس بقراءة أمثال قصصه، لكنهم سيدفعون ثمن ذلك الإصلاح متعة، كانوا قمينين أن يلاقوها في قصة فنية. وإننا لعلى يقين أنه حتى لو كان الغرض المقصود، أن يتحول الناس إلى الرأي الجديد، فهم أسرع إلى هذا التحول إن قرءوا قصة فنية، منهم إذا قرءوا قصة تسوق إليهم الرأي الجديد بالبرهان العقلي. وهذه قصة «آن فيرونكا
Anne Veronica » تدافع عن حرية المرأة، دفاعا يستند إلى براهين العقل، فكم حولت من قرائها إلى الرأي الذي تدافع عنه؟
كانت القصة من خلق القرن الثامن عشر، خلقها «رتشردسن» ثم أعقبه «فيلدنج»، فصور الحياة كما تجري في الهواء الطلق، كما صور «رتشردسن» الحياة داخل الدور. فقصته «توم جونز
Tom Jones » صورة للحياة اليومية في إنجلترا سنة 1742م، وحسبك - لتعلم مقدار عناية الكاتب بالرجل العادي في تصويره - أن ترى هذا العنوان الذي اختاره لقصته، فهذان الاسمان «توم» و«جونز» مما يفوح برائحة الطبقات الشعبية. ثم جاء «ستيرن» وقصته «ترسترام شاندي
Tristram Shandy »، مثلا قويا، يوضح لك كيف تعنى القصة الصحيحة بالتفصيلات الدقيقة للحوادث، فمجلدات عدة منها تقص لنا أنباء البطل «ترسترام» في حياته الأولى، بل إنها لتبدأ في حكاية أنباء بطلها منذ كان نطفة في جوف أمه، وتقرأ الفصل بعد الفصل، و«ترسترام» لا يزال جنينا لم يشهد النور! ولا يولد إلا وقد قرأت من الرواية شطرا كبيرا من المجلد الثالث! فهي قصة لا تمل من تعقب الدقائق، بحيث تكون صورة شاملة كاملة للمراحل الأولى من حياة شخص لا يزنه المجتمع إلا بأخف الموازين، مع ذكر تفصيلات البيئة التي نشأ فيها، بحيث لا يترك منها شاردة ولا واردة إلا أثبتها. وبطل القصة رجل له شذوذه وغرابته ، لكنه الشذوذ الذي تلمسه في سواد البشر. ولا نحسب قصة غير هذه استطاعت أن تستغل ما تمتاز به القصة من سائر الفنون الأدبية، وهو حرية الكاتب في الإفاضة والإطناب إلى غير حد معلوم، فترى الكاتب يطيل الوقوف عند كل حادثة؛ لأنه يراها محوطة بشبكة كبيرة واسعة الأطراف من الحوادث المسايرة، فيظل يتابع الطريق المتشعبة هنا وهنالك في هوادة، لا يتعجل الوصف ولا يسرع إلى الختام، بل يتتبع الخيوط والشعب حيث تسير به، حتى يشبعها وصفا وتحليلا. وعاصر «ستيرن» قصصي آخر هو «سمولت
Smollett »، صاحب «رودريك راندم
Page inconnue