ليس الرجل الذي صنعته الظروف آية يتجلى فيها الفن الجميل؛ لأنه لا يحقق معنى «الرجولة» تحقيقا كاملا، فقد حالت دون نمو «الرجولة» فيه عوامل، قطعت ذلك النمو الطبيعي قطعا، أو أجرته في طريق ملتو، لا يتفق مع الاستعداد الموهوب والقوة الفطرية، عوامل خارجة عنه لا تمت إلى «رجولته» بسبب من الأسباب. ويسوقنا هذا المثل الذي ضربناه، إلى تدبر الفن الجميل من ناحية أخرى، فلقد كثر الحديث بين رجال النقد، عن الصلة التي تربط الطبيعة بالفن الجميل. ونحب أن نقرر في جلاء أن الآية، مما ينتجه الفن الجميل، تختلف اختلافا جذريا بينا عن الشيء إذا كونته الطبيعة وأنتجته. خذ بذرتين من بذور الورد، واغرس إحداهما في العراء، فإذا ما ازدهرت ورودها، فاتركها للرياح تلفحها، للأمطار تصفعها، ولحرارة الشمس تذويها، ولآفات النبات تقضي عليها، يكن لك بذلك عمل من أعمال الطبيعة. واغرس الأخرى في مكان تحوطه الرعاية، بحيث لا تنال من زهراتها العوامل الخارجية، يكن لك من وردها شيء، هو بعمل الفن الجميل أشبه؛ إذ يعبر عما كان كامنا في البذرة من صفات الورد، تعبيرا تاما كاملا، وإنما تخيرت هذا المثل عامدا؛ لأنني أعلم أن كثرتنا الغالبة، تستمد متعة فنية من شجرة الورد الأولى، بما يلفحها من ريح وما يصفعها من مطر، وما يذويها من حرارة الشمس، وما يقضي عليها من آفات النبات، أكثر مما تستمده من الشجرة الثانية، بكل ما يحوطها من عناية ورعاية، وكل ما ظفرت به في النهاية من نمو واكتمال؛ لكنني أعلم إلى جانب ذلك أن المتعة الفنية، التي تستمدها من الشجرة الأولى، ليس مصدرها «وردية» الشجرة، بل أساسها أننا نحب أن نرى الورد والريح والمطر، تفعل فعلها في آن معا، وقد وجدنا بغيتنا في شجرة غرست في العراء، تحيط بها عوامل الطبيعة المنشودة. وإذا فهي شجرة تعبر، بما انتهت إليه، عن مجموعة من القوى مجتمعة: قوة الريح والمطر والورد. أما الشجرة الثانية ففيها فن «الوردية» قد نما واكتمل، وإن ما صنعه فيها النباتي، هو بعينه ما يصنعه كل فنان في مادة فنه؛ فقد حررها من كل القيود والعوامل الخارجية القاهرة، ولم يبق إلا على العوامل الفطرية الكامنة في جبلتها، تنميها كما أراد لها الله أن تنمو شجرة ورد فقط، لا شجرة ورد أضيفت إليها العوامل والمؤثرات. وخير قصيدة من الشعر، هي ما أبرزت أكثر ما يمكن إبرازه، من الشعور من المادة التي منها صنعت، وقد صنعت من ألفاظ، فخير قصيدة هي ما حققت خصائص الألفاظ الكامنة فيها تحقيقا يبلغ الغاية القصوى، أو بعبارة أخرى هي ما أخرجت من الألفاظ قدرتها على التعبير إلى أبعد الحدود. أما قصيدة لا تستخدم فيها الألفاظ، للتعبير إلى أبعد ما يمكن للألفاظ أن تستخدم وتستغل، فهي قصيدة رديئة، أو قل إنها ليست من الشعر في شيء. والواقع أن عددا قليلا جدا من القصائد، هو الذي تستطيع أن تقول عنه إن القصيدة منه شعر كلها من الفاتحة إلى الختام، وأما الكثرة الساحقة مما نعده شعرا جيدا، فلا تكون القصيدة شعرا صادقا إلا في بعض أجزائها، وتلك الأجزاء هي التي يبلغ فيها التعبير حد الكمال، فليس الشعراء شعراء في كل ما يكتبون، فهذا وردزورث مثلا - وهو من فحول الشعر - لا ينازع في صدق شاعريته وقوة عبقريته ناقد واحد، ومع ذلك تراه في بعض ما يكتب بعيدا عن الكمال. لقد اخترنا له في الفصل الأول قصيدة «الحاصدة المنفردة»، نموذجا جيدا من شعره، وتناولناها بالتحليل، فأسقطنا منها المقطوعة الأخيرة؛ لأنها لم تساير زميلاتها قوة وجودة. إن وردزورث في بعض ما ينشئ يقف موقف المعلم المرشد الواعظ، فيبطل أن يكون شاعرا، فخير ما يكون الشاعر معلما حين لا يحاول أبدا أن يعلم. نحن لا ننكر أن يكون للشاعر حكمة يعلمنا إياها، بل إن الشاعر أحق الناس بجمع الحكمة؛ لأن رجلا أرهفت حواسه، بحيث استمتع من تجارب الحياة، بعدد أكبر مما استمتع به سواه، تكون حكمة الحياة أقرب إلى أطراف بنانه منها إلى غيره، لكن تحصيل الحكمة وإنشاد الشعر عملان مختلفان، وما أكثر ما يسهو عن هذه الحقيقة شعراؤنا، كأنما هم يجهلون أن محاولة أي من العملين يفسد الآخر؛ فإن كنت حكيما فلست بشاعر، وإن كنت شاعرا فلست بحكيم في شعرك.
1
وليس تعليل ذلك علينا ببعيد، فالشعر من شأنه أن يرفع نفوسنا عن تجربة الحياة العادية المألوفة إلى مستوى أرفع وأعلى. من شأن الشعر أن يخدعنا عن أنفسنا، فينسينا لحظة ما يحيط بحواسنا من واقع، ليجول بنا في محيط أسمى من حياتنا، فإن سها الشاعر وحشر حكمة - والحكمة قانون الحياة التي نحياها؛ إذ تركز تجربة هذه الحياة في جوهرة لامعة - أقول إن سها الشاعر وحشر حكمة في هذا المجال الخيالي السامي، كان بمثابة من يخرج إلينا من وراء الستار، ونحن ننظر في دهشة وإعجاب، إلى بعض المناظر العجيبة على المسرح، فيدلنا على سر الحيلة التي أحدثت كل هذه الغرابة فيما نرى، فلا يكون قوله هذا شاذا في موضعه فحسب، بل يفسد كل شعورنا، ومهما يتقن اللاعبون بعد ذلك حركاتهم، فلن نعود إلى سحرنا الأول.
ولنعد إلى موضوعنا فنستأنف فيه الحديث، لقد بلغنا بالبحث مرحلة قررنا عندها أن العمل يكون فنا جميلا لو استغل مادته الخامة، فأخرج منها قواها المعبرة إلى آخر قطرة فيها، ولكن كيف لنا أن نعرف ما في وسع هذه المادة أو تلك أن تبلغه، حتى نقول إن العمل الفني هنا قد استخدم القوة الكامنة، أو لم يستخدمها فيكون تبعا لذلك جيدا أو رديئا؟ لا أحسبنا مستطيعين ذلك إلا إن كنا من رجال الفن، فعبقرية الفنان هي التي تهديه إلى ما في مادته، من قوة تعبيرية في وسعه استغلالها وإخراجها، فالشاعر - مثلا - يرى في الألفاظ معنى أغزر وقوة تعبيرية أكبر مما يراها فيها سواه، لكننا قد نوفق إلى سبيل تؤدي بنا إلى حيث نريد، لو اقتفينا أثر رجال الفن، الذين يستخدمون المادة التي نحن بصدد الحكم عليها، لنرى ماذا يصنعون لإدراك ما في مادتهم من قوة كامنة. السبيل المؤدية بنا إلى ما نريد، هي أن نستعرض بعض روائع الفن، التي أراد بها أصحابها أن يستخرجوا معنى بعينه من مادة بعينها، بالتصرف فيها على هذا النحو أو ذاك، بهذا نستطيع أن نصل إلى مبادئ عامة، تكون لنا بمثابة القوانين الثابتة التي تصلح مقياسا للحكم، على شرط ألا نركب رءوسنا فنظن بهذه القوانين صدقا لا يقبل ريبة ولا شكا؛ لأننا - على أحسن الفروض - ننتزع هذه القوانين مما أبدعه رجال الفن السابقون، وقد يهب الله فنانا ما لم يهبه أحدا غيره، فيستخرج من مادته ما لم يستطع سواه من السابقين أن يستخرجه.
ولنبدأ البحث بالنظر في آثار المرمر، التي خلفها جهابذة النحت في تماثيلهم، فلماذا آثر المثالون أن يصوروا بتماثيلهم الأرباب وعمالقة الأبطال والشخوص الرمزية وقادة الأمة من مشاهير الرجال؟ آثروا ذلك لأن المثال إن صنع تمثالا لهذا الفرد أو ذاك، فهو لا يريد حقا هذا أو ذاك، وإنما يرمي إلى شيء وراءهما، إن المثال إن نحت تمثالا «لأخيل» أو «نلسن»، فإنما يريد أن يخلد المرمر العنصر الخالد فيمن يصوره بتمثاله؛ يريد العنصر الذي يمتاز به بطله من سائر الناس، ويهمل سائر صفاته التي يشترك فيها مع السواد، ومن أجل هذا اختار المثالون المرمر مادة لفنهم؛ لأنه يبرز العظمة والجلال ويهمل الدقائق الصغيرة، التي ليست بذات شأن أو خطر، ومن أجل هذا ترى المثالين يخلعون على شخوصهم أردية بسيطة، تنسدل من عواتقهم إلى أوساطهم في أقواس بسيطة الانحناء قوية الأثر، فذلك عندهم أوفى بالغرض المقصود من ثياب، كلها تفصيلات وأجزاء وزخارف ونقوش؛ لأن مثل هذه الثياب المزخرفة المزركشة، المعقدة بأجزائها الكثيرة من الشئون العابرة الفانية. ونحن إنما نريد أن نبقي من بطلنا على جانبه الخالد، ونزيل عنه كل ما يعلق به من فقاقيع الحياة اليومية، التي يستوي فيها العظيم وغير العظيم. ومن ناحية أخرى فإن المرمر يلائمه أن يصور الثياب البسيطة، القوية بطياتها القليلة المستقيمة المنسدلة في فخامة وجلال، لا أن يصور المخرم الرقيق الدقيق، فإن رأيت من المثالين المحدثين من يأبى أن يلبس أبطاله الثياب البسيطة، التي جرى بها العرف بين رجال النحت خلال العصور، ويؤثر لهم أن يبدوا في حللهم العسكرية أو ثياب التشريف، فاعلم أنه لا يريد بذلك أن يظهر أبطاله في دقائق الحياة اليومية، فتلك الدقائق في ذاتها صغار لا يستحق الخلود، وإنما يرمز بتلك الحلة العسكرية أو ثياب التشريف، إلى ما في بطله من عنصر قومي أو عالمي.
ويزيد موضوعنا وضوحا موازنة نجريها بين النحت والتصوير، فلو سئلت: أيهما تحب تخليدا لذكر صديق قضى: صورة له ملونة أو تمثال نصفي، فما أحسبك إلا مفضلا صورته على التمثال، فالصورة بما تستطيعه من تباين في الظل والنور ودرجات اللون، يمكنها أن تصور صديقك كما كان في حياته، محتفظة له بكل الدقائق الصغيرة التي جعلته رجلا فردا كما عهدته وعرفته. الصورة تقدم إليك الصديق في محيط الحياة اليومية، التي ألفت أن تراه فيها فأحببته وأعززته. أما التمثال فبطبيعة مادته لا يمثل لك الصديق رجلا فردا، له سماته الشخصية وخصائصه المميزة، بل يمثل منه الجانب الذي يجعله إنسانا عاما، ينتمي إلى وطن معين، وقد يكون الجانب القومي العام الذي يبرزه التمثال أحق بالبقاء والخلود، من دقائق حياته اليومية التي جعلته فردا من الأفراد، لكنك بهذه الدقائق المألوفة، ربطت بينك وبينه أواصر الصداقة والود.
ويتبين من هذا الذي عرضناه، أن كل فن من الفنون الجميلة له مجال خاص به، تتجلى فيه قدرته وقوته على التعبير، وهي قوة مستمدة من خصائص المادة، التي يستخدمها في صنع نتاجه. وفي كل فن جميل يبلغ الإنتاج ذروة الكمال، إن تحقق فيه كل ما تنطوي عليه مادة ذلك الفن من قدرة كامنة على التعبير، فالمرمر يستطيع أن يمثل زخرفة الثياب ووشيها، لكنها عندئذ تكون مهارة صانع لا براعة فنان؛ إذ الفنان الحق يعلم ما يكمن في مادته من خير خصائصها، ويبرزه دون غيره، وخير خصائص المرمر أن يبرز البسيط الجليل.
نستطيع الآن أن نلخص المشكلة في عبارة وجيزة واضحة فنقول: إن للفن الجميل أنواعا مختلفة، من تصوير ونحت وموسيقى وشعر وما إليها، وإنما كانت هذه الأنواع صورا مختلفة للتعبير؛ لأنها تستخدم ألوانا مختلفة من المادة، تعبر بها عما تريد، وما دامت موادها قد اختلفت عنصرا، فقد اختلفت كذلك في قدرتها على التعبير. فهل نستطيع أن نصل بالتحليل إلى معرفة العلاقة بين المادة الخامة، التي هي وسيلة التعبير، وبين قدرة الفنان على استخدامها؟
سنجد جواب هذا السؤال مبسوطا في وضوح وقوة، عند شاعر ناقد ألماني، هو «لسنج» في كتابه «لاو كون»، الذي يبحث فيه وجوه الخلاف بين التصوير والشعر، في القدرة على التعبير، معللا لما يقول، ونرى لزاما علينا قبل أن نقدم إليك خلاصة رأيه، أن نحذرك من بعض الأخطاء الشائعة التي سببتها ألفاظ معينة، فأولا لا فرق بين «التعبير» و«التمثيل»، في مثل قولنا إن هذا التمثال يمثل «أخيل» أو يعبر عنه، فإن كانت الفنون الجميلة كلها وسائل تعبير، فهي كلها وسائل تمثيل لأشياء. هذا تحذير لا مناص منه في هذا الموضع، لما نشأ من خلط في التفكير عند التعليق على تعريف الفن، بأنه «محاكاة» الطبيعة، وهو تعريف قديم مرده إلى فلاسفة اليونان الأقدمين، فجاء المحدثون وأنكروا هذا التعريف في أنفة وكبرياء؛ إذ ساءهم أن تتقلص فنونهم الجميلة، وتهوي من ذروة «الخلق والإبداع» إلى حضيض «المحاكاة والتقليد»، هم يخلقون ويبتكرون ولا يحاكون أو يقلدون، لكن محاكاة الطبيعة معناها تمثيلها، وتمثيلها معناه التعبير عنها. ولا بد أن تفهم الطبيعة بأوسع معانيها، فتشمل القوى الإلهية، والطبيعة البشرية فضلا عن ظواهر الطبيعة المادية، التي كثيرا ما تفهم وحدها من اللفظ. محاكاة الطبيعة ليس معناه أن ننقل عن الطبيعة «نسخة طبق الأصل» كما يقولون، وإلا انقلب الفنان آلة تصوير تنقل ما تقع عليه عينها في أمانة ودقة، وليس معناها كذلك أن يكون العمل الفني هو الواقع حرفا بحرف، فصدق العمل الفني بهذا المعنى الحرفي علامة فشله لا دليل نجاحه، فهذا «شلي» ينشئ قصيدته المعروفة عن «القبرة»، فلا تكون آية فنية رائعة إلا لأنها لا تصور ما في الطبيعة، إن أريد بالطبيعة هنا القبرة التي تراها في الحقول أنى سرت. فإذا أردت قبرة طبيعية، فعليك بها في حقولها ودع شاعرنا وشأنه ، أما قبرة الشاعر فطائر صب عليه الشاعر سحر خياله، فتحول طائرا فيه طبيعة إلهية، ولا تقل إن «شلي» شاعر «مثالي» يحور الواقع ويسمو به عن حقيقته، وإن هنالك من الشعراء «الواقعيين» من يعنى بالطبيعة كما هي، فالتفرقة الزائفة بين «المثالي» و«الواقعي» في الفنون، هي النقطة الثانية التي أردنا أن نحذر منها، فهؤلاء الواقعيون أنفسهم قلما ينقلون في فنهم صورة طبق أصلها الطبيعي بغير زيادة أو نقصان، فهم لا يحاولون أن يصوروا الواقع تصويرا فوتوغرافيا، بكل ما فيه من دقائق وتفصيلات، إنما هم يختارون وينتقون من تلك الدقائق الكثيرة، ما يلائم الأغراض التي ينشدونها، ويهملون سائرها. وكل الفرق بين الشعراء من نوع «شلي» وغيرهم ممن قال عنهم واقعيون، أن شلي وأضرابه المثاليين يختارون من موضوعهم جانبا معينا، ويختار الواقعيون من نفس الموضوع جانبا آخر. «شلي» يؤثر السحاب وقوس قزح وأفلاك السماء وأنجمها السواطع، ويؤثر الشاعر الواقعي بيوت الفقراء والأرض والطين، وقد يكتفي بها، وقد يضيف إليها العناصر التي اختارها شلي. وعلى كل حال فالشاعران كلاهما يتفقان في أنهما يختاران من عناصر الموضوع الذي يصورانه، ما يريان أنه يصوره خير تصوير في رأي كل منهما. فكلاهما بهذا المعنى «مثالي» يهمل كثيرا من تفصيلات الواقع؛ ليركز الوصف في جانب معين يقع عليه اختياره. وإذا فإطلاقنا على هذا الشاعر اسم المثالي، وعلى ذاك اسم الواقعي فيه بعد عن الصواب، لكنها تفرقة مفيدة في التمييز بين طائفتين من الشعراء، إن لم يكن الخلاف بينهما في مثالية إحداهما وواقعية الأخرى، فهما مختلفتان في جانب الطبيعة الذي يختاره كل منهما موضوعا لفنه، فليست القصور الباذخة بأقل واقعية من الأكواخ، ومع ذلك فالفنان الذي يصور الأكواخ وساكنيها - في عرف هؤلاء القوم - واقعي، والذي يصور القصور وآهليها مثالي، وذلك بغير شك خلط في معاني الألفاظ. ومما يزيد الأمر سخرية وهزلا أن أولئك «الواقعيين» كثيرا ما يكونون أمعن إيغالا في المثالية من «المثاليين»، فترى مصور الأكواخ يتعنت في وصفه ويتزمت، فلا يأذن لشعاع واحد من أشعة الشمس ، أن يتسلل إلى ساكن الكوخ المسكين، لتجيء الصورة كما أرادها محلوكة دامسة فيها بؤس وشقاء. وأما مصور القصور فكثيرا ما يفسح صدره للعصافير، تعشش فوق سقوفها أو تزقزق على نافذة مكسورة الزجاج. وإذا فآمن طريق - فيما نرى - لاستخدام هاتين اللفظتين الخطيرتين - مثالي وواقعي - ألا ننظر إلى الموضوع المختار، بل إلى طريقة السير في الموضوع كائنا ما كان؛ فقد تكون مثاليا في وصفك للأكواخ، وقد تكون واقعيا في وصفك للقصور، فالعبرة بالطريقة لا بالموضوع. على أنه يجب أن نضع نصب أعيننا، أن الفن الجميل بكل أنواعه وضروبه - مثاليا كان أو واقعيا - ليس هو صورة صادقة للشيء، كما هو في الطبيعة بكل أجزائه ودقائقه، فتلك الأجزاء والدقائق لا سبيل إلى حصرها وحدها، إنما هو انتقاء واختيار. ومعنى ذلك أن كل عمل فني مثالي، بمعنى أنه يسير بشيئه نحو مثاله، الذي تتركز فيه صفات الشيء الذاتية الجوهرية، مهملا صفاته العرضية المتغيرة، فإن اختار الفنان صفة أو صفتين يرمز بهما لجوهر الشيء، الذي يصوره كان فنانا «مثاليا»، وإن آثر أن يختار من تفصيلات الموضوع، ما وسعه أن يختار كان فنانا «واقعيا».
ولنعد بعد هذا التحذير إلى «لسنج» وكتابه «لاو كون»؛ لنعرض رأيه في مشكلة التفرقة بين فني التصوير والشعر، في قدرتهما على التعبير. إن كل الفنون الجميلة - بما فيها التصوير والشعر- تمثل ناحية من الطبيعة، لكن في جنبات الطبيعة أنحاء كثيرة مختلفة، فماذا في الشعر مما يجعله أصلح لتصوير جانب منها دون جانب، وماذا في التصوير؟
Page inconnue