فبين كتاب المقالة فروق شاسعة، حتى ليعجب الإنسان كيف تجتمع كلها تحت صورة واحدة من صور الأدب. فهل تجمع هذه الصنوف المتفاوتة من المقالة الأدبية صفات مشتركة إلى جانب اشتراكها في القصر؟ هذا سؤال تقتضي الإجابة عنه عودة إلى الأساليب الأدبية وخصائصها، فيجمل بنا أن نعرج حديثنا على أدب المقالة؛ ليكون حديثنا عن الأسلوب متصلا، ولو أن ذلك سبق لترتيب الكتاب؛ إذ الكلام في الصورة الأدبية له في الكتاب موضع آخر.
لقد تواضع رجال النقد على أن يطلقوا كلمة «مقالة» على كل ضروب الكتابة النثرية، إن قصر طولها وعالجت موضوعا واحدا (وقد تكون المقالة نظما، ولذلك أمثلة قليلة)؛ ولهذا كان مدى التفاوت بعيدا جدا بين مختلف صنوف الإنشاء التي تقع تحت هذا الاسم؛ فالبحث العلمي القصير مقالة، كالرسالة العلمية التي كتبها «لوك» عن طريقة اكتساب الإنسان للمعرفة، وأطلق عليها «مقالة في العقل البشري». والقطعة الأدبية الفنية مقالة، ومثال ذلك مقالات «لام»، وهذا النوع من المقالة لا يضيف إلى العلم الإنساني علما جديدا، ولا يقدم للقارئ معرفة، إنما يقصد إلى إمتاعه ولذته بما فيه من فن جميل. وبين هذين الطرفين - المقالة العلمية من ناحية، والمقالة الأدبية من ناحية أخرى - تتفاوت المقالات درجات في دنوها من هذا الطرف أو ذاك؛ فمنها ما هو إلى العلم الخالص أقرب، ومنها ما هو إلى الفن الخالص أدنى، ومنها ما يجمع الغايتين في آن معا. فإن كان «لوك» مثالا للفريق الأول، و«لام» مثالا للفريق الثاني، فخير مثال نسوقه للفريق الثالث «ماكولي» الذي يحاول في مقالاته أن يكون مؤرخا علميا يتوخى الحق وصدق الرواية، وأن يكون فنانا في ألفاظه وعباراته في وقت واحد، يحاول ماكولي بأسلوبه ما يحاوله الخطيب، يظهر للناس كأنما هو يدير القول في موضوع عقلي منطقي، لكنه رغم ذلك لا يرجو أن يؤثر عليهم بحجته ودليله بقدر ما ينفذ إلى قلوبهم بقوة العبارة وحسن البيان؛ وبهذا المقياس نفسه نستطيع أن نقدر الكثرة الغالبة من المقالات الأدبية، لولا أننا نجد المقالة عند «لام» لا تخضع لهذا المقياس؛ فبأي معيار نقيس أسلوبا كالذي نراه في مقالات «لام»؟ لن نجد معيارنا إلا إذا استعرضنا تاريخ المقالة الأدبية؛ فقد يعيننا هذا العرض التاريخي على فهم طبيعة هذا الفن الأدبي، فكثيرا ما يكون الكشف عن مراحل التطور وسيلة تلقي ضوءا على طبيعة المتطور وقوامه. فما «المقالة» التي نسلكها في عداد الفنون الجميلة، والتي ليست من قبيل البحوث العلمية؟ «المقالة» التي تكتب لذاتها ولا يقصد بها أداء معنى وراءها؟
يقول مؤرخو الآداب إن الكاتب الفرنسي «مونتيني» هو رب المقالة ومنشئها في القرن السادس عشر، بعد أن لم تكن، وقد كان «مونتيني» وهو يكتب مقالاته عالما بأنه ينشئ شيئا جديدا لم يسبقه إليه أديب آخر ، فقد أحس في نفسه الرغبة أن يكتب شيئا يختلف في جوهره عما ألف السابقون أن يكتبوه، أراد صورة أدبية، أو قل أراد قالبا أدبيا يصب فيه خليطا من الصفات التي وإن تكن سطحية متناقضة في ذاتها إلا أنها مع ذلك تصوره لأنها قوامه وجوهر كيانه، فليس من شك في أن هذا الفرد «ميشيل مونتيني» يختلف في خليط صفاته، من ذوق وشهوة وعادة وأسلوب في التفكير، عن سائر الناس، وأراد أن يخرج من نفسه عناصره التي تكون فرديته هذه التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، لكن عناصر الشخصية الفردية متباينة لا حد لتباينها، فلا بد له - إذن - من قالب أدبي مرن شديد المرونة، بحيث يسع ما ينطبع على النفس من آثار عارضة، لا بد له من قالب تحتمل حدوده أن يطلق فيها مكنون نفسه الجياشة إطلاقا لا ينقطع ولا تضبطه الضوابط، في ظاهره على الأقل. ستقول: ولماذا لم يعبر عن مشاعره وخواطره في قصيدة غنائية أو قصائد؟ أليست القصيدة الغنائية عند الأدباء وسيلة التعبير عن الذات وما يضطرم فيها من عواطف تميزها وتطبعها بطابع خاص؟ وفاتك أمر خطير، هو أن القصيدة الغنائية تعبر عن الذات تعبيرا يعلو بالذات ويسمو بها، القصيدة الغنائية لا تصور الذات بكل ما فيها من أوجه النقص وأوجه الكمال؛ لأن طبيعة الشعر المنظوم تدعو إلى التسامي، لكن «مونتيني» أراد أن يسكب نفسه بكل ما فيها على القرطاس. إذن فقد أراد للقصيدة الغنائية أن تنثر، أراد قصيدة غنائية تتراخى أوتارها، فكانت له بهذا التحوير «المقالة» الأدبية، المقالة الأدبية في صميمها قصيدة غنائية وجدانية سيقت نثرا لتتسع لما لا يتسع له الشعر المنظوم من بعض عناصر الذات. فإن شئت قانونا يضبط لك «المقالة» من حيث الصورة، فاعلم أنه قدرتها على التعبير عن خوالج النفس في سيرها الذي لا يجري على نظام واطراد. قد تكتنف الأديب حالة نفسية خاصة، فتجري في ذهنه سلسلة من الخواطر المتناثرة التي تتصل بتلك الحالة النفسية السائدة، فتؤثر فيها وتتأثر بها، فإن استطاع أن يصب هذا السيل من الخواطر كما يجري في ذهنه، فقد أنشأ «مقالة أدبية». الخواطر في المقالة الأدبية تتصل بصلات من العاطفة أو الخيال؛ أعني أن خاطرا يلحق خاطرا ويتبعه، لا لأن بينهما علاقة منطقية كالتي تأتي بالنتيجة وراء سببها، بل لأن هذين الخاطرين مرتبطان في خيال الأديب أو متصلان بعاطفته. كاتب المقالة الأدبية يكتب وكأنه يتحدث في سمر حديثا مطلقا من كل قيد، فيدع الخواطر يسوق بعضها بعضا بما بينها من روابط تستدعي تتابعها وتداعيها دون أن يعمل في ذلك عقله ومنطقه لينظم الترتيب والسياق. هكذا بدأ مونتيني أدب المقالة على وجه الصحيح، فجاء من بعده وأخطئوا خصائصها على قرب الزمن بينهم وبينه؛ فها هو ذا «بيكن» - وتكاد شهرته في عالم الأدب ترتكز على مقالاته - يتناول الفن الأدبي الوليد، فيحطم أركانه تحطيما، ويكتب لنفسه مقالة من نوع آخر، فمقالته بحث بغير نظام في موضوع منظم، يسوق الآراء في موضوع مقالته متلاحقة، كأنه يرص خرزات لينشئ منها عقدا، فالخرزات منفصلة ولكنها متعاونة على إنشاء العقد في نهاية الأمر. فليس التعبير عن خصائص الذات وعناصرها ومشاعرها هو كل شيء في مقالة «بيكن» كما كان كل شيء في مقالة «مونتيني»، لكن أعلام «المقالة» في الأدب الإنجليزي «كاولي» و«أدسن» و«جولد سمث» أخذوا بعدئذ يتعهدون هذه الصورة الأدبية الناشئة، ويبرزون خصائصها وصفاتها، حتى جاء «لام» فبلغت به المقالة ذروة الكمال، وعندئذ عادت المقالة الأدبية كما بدأت عند منشئها وخالقها، تعالج الجوانب التي تجعل من الفرد فردا متميزا، وتخرج من نفس الأديب ما يجعلها ذاتا قائمة بنفسها، مختلفة عن سواها. ولم تكن مصادفة أن تنشأ المقالة الأدبية على يدي مونتيني في القرن السادس عشر، حين تحكمت النزعة الفردية في عقول الناس وسادت تفكيرهم، فطبيعي لهذه الفردية الطاغية أن تبحث لها في الأدب عن مخرج تتنفس منه، والمقالة الأدبية خير مخرج لها. ولم تكن كذلك مصادفة أن ينشأ إذ ذاك أيضا أدب التراجم في صورة جديدة، فلأول مرة في تاريخ الأدب كتبت سير الرجال بدقائقها الشخصية وتفصيلاتها الذاتية. فإن كانت الغاية من المقالة الأدبية أن تعبر عن خليط يكون في مجموعه ذاتية الفرد تعبيرا يبعد عن جفاف الحقائق الموضوعية العلمية، ولا يسير وفق تسلسل المنطق، فالأسلوب الجيد في المقالة يجب أن يكون ذاتيا لا ينبني على أساس عقلي، ولا يبسط حقائق موضوعية. فعد إلى قراءة طائفة من المقالات الأدبية، وكلما وجدت الكاتب أدنى إلى من يحدثك عن تاريخ نفسه فيما يكتب، إن رأيته يرسل الخوطر إرسالا هينا، فتستشف منها ما وراءها من حالته النفسية، فاعلم أنه قد أجاد. أما إن وجدته يعالج موضوعا لا يتصل بمكنون نفسه، ويعنى بتنظيمه وتبويبه كما ينظم البحث العلمي، فاعلم أنه عن الجودة بعيد.
إن ما ذكرناه عن الأسلوب يصدق على النثر والنظم؛ فالذي يحدد أسلوب الكاتب أو الناظم عناصر ثلاثة؛ استخدامه لألفاظ معينة تميزه عن سواه، ثم اتباعه لطريقة معينة خاصة به في ترتيب هذه الألفاظ، ثم معالجة موضوعاته على نحو يتفرد به. وهذا العنصر الثالث من العناصر المكونة للأسلوب هو في الحقيقة نتيجة تتفرع عن العنصرين الأولين؛ فيستطيع الكاتب - مثلا - أن يعالج موضوعه بطريقة تقنع العقل بمنطقها إذا هو استخدم ألفاظه ورتبها في الجمل على النحو الذي يحدث صداه في العقل لا في القلب، كما يستطيع الكاتب أن يزيد في إنشائه من الألفاظ المشحونة بالعاطفة، ويرتبها ترتيبا من شأنه أن يحرك الشعور، فيتغير أسلوبه جملة واحدة ويصبح أسلوبا عاطفيا. فكل الفرق بين أسلوب وأسلوب هو في الألفاظ المختارة، وفي الطريقة التي تساق بها هذه الألفاظ، وهذا صحيح في النثر والنظم على السواء. والفرق بين الناظم والناثر هو أن الأول يستخدم الصوت وسيلة للتعبير؛ أي أنه يرتب الألفاظ ترتيبا يحدث رنينا خاصا يكون جزءا من أداة التعبير.
ولا شك أن صوت اللفظ جزء من معناه لو أردت المعنى كاملا؛ فلفظة جميلة الوقع في المسامع تخلع على مسماها لونا من الجمال لمجرد حسن وقعها وجمال رنينها. فلو أسمعت رجلا هذه الألفاظ: ورد وسوسن، وقلقاس وبطيخ، لأدرك من فوره أن اللفظتين الأوليين تدلان على شيئين أجمل مما تدل عليهما اللفظتان الأخريان، وهو لا يحتاج في هذا الحكم إلى رؤية هذه الأشياء؛ لأن في رنين الألفاظ ما يهديه. وما نظن أحدا يقرأ هذين البيتين دون أن يلمس أثر رنين الألفاظ في تكوين المعنى:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
إذن فمن أدوات الشاعر في التعبير أن يستخدم جرس اللفظ، فيحاول أن يحاكي صوت الفعل الذي يصوره في صوت الألفاظ التي ينظمها؛ فقد يكثر مثلا من حروف «الضاد» و«الطاء»، كما في البيت الأول؛ ليدل على الضرب والطعن، وقد يكثر من حروف «السين» و«الصاد»؛ ليدل على الحرير وهكذا، ثم هو يحاول أن يحاكي صوت الفعل الذي يصوره أيضا بنوع البحر الذي يختاره؛ فبحر يصلح للحركة السريعة لسرعة تفعيلاته، وآخر يصلح للحركة البطيئة لكثرة حروف المد في تفعيلاته وهكذا. غير أننا يجب أن نشير إلى ما في هذه المحاولة من خطر؛ لأنها كثيرا ما تعرض الشاعر إلى صناعة تخرج به عن جمال الطبع وحسن السليقة، نقول ذلك دون أن نغض من شأن الجرس في قوة التعبير، ولا ينشأ هذا الأثر من كل لفظة على حدة بوجود تناسب بين صوتها ومعناها، بل من تتابع الأصوات في سلسلة من الألفاظ، وذلك ما نسميه بالوزن، والوزن هو أعظم ما يميز النظم من النثر.
Page inconnue