اقرأ هذه المقطوعة مسرعا، يتبادر إلى ذهنك أن بيتيها الأخيرين ضرب من القياس المنطقي، وكأن الشاعر يريد بهما أن يقول إنه ما دام الله في سمائه فالنتيجة أن كل ما في الدنيا بخير، والدليل هو هذه الأمثلة المطروحة: ريعان الربيع وإشراق الصبح ولآلئ الندى ... إلخ، ولو كان الأمر كذلك لكان الشاعر فيلسوفا يدبر عقله في الأمور، ويضع المقدمات وينتزع النتائج، وهنا يتعرض الشاعر لنقدك إن كنت من أصحاب الجدل المنطقي، فستقول إن في هذا القياس مغالطة لأن النتيجة لا تلزم عن مقدماتها؛ فقد يكون الله في سمائه ولا يكون كل ما في الدنيا بخير. لكن «براوننج» في قوله هذا شاعر وليس بالفيلسوف الذي يقرع بالحجة والدليل، ولو أجرى فلسفة على لسان هذه الفتاة الصغيرة العاملة المنهوكة المتعبة لما استحق أن يكون شاعرا؛ فهي في يوم عطلتها أسرعت إلى التل عند شروق الشمس، وراحت في مرحها وجذلها تنقل عينها هنا وهناك؛ لتنهب بهما مجالي الجمال نهبا، فما وسعها إلا أن تغني من فرط السرور: «العام من الربيع في ريعانه، واليوم من الإشراق في إصباحه، والصبح في ساعته السابعة، وسفح التلال مرصع بلآلئ الندى، والقبرة في طيرانها سابحة، والدودة البزاقة على الأرض زاحفة. الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير.» وكل هذه أشياء أدركتها بعينيها إدراكا مباشرا، ولم تستدل على وجودها بقياس العقل والمنطق. هي لا تقول: «إنه الربيع»، لكنها تقول: «العام من الربيع في ريعانه»، كأنما هي في اللحظة الواحدة التي يتم فيها ازدهار الربيع ويكمل، وكل ما في الأرض والسماء والماء والهواء ناطق بأن الربيع في ريعانه. وما البيتان الأخيران «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير» إلا من قبيل هذه المشاهدات المباشرة التي تراها بعينيها فيما حولها. إنها ترى الله في سمائه كما ترى لآلئ الندى على سفح التل، والقبرة في طيرانها سابحة؛ فإن أردت أن تقرأ أغنية هذه الفتاة، كان لزاما عليك أن تشعر بشعورها، وتنظر إلى الأشياء بعينيها لا بعينيك، فتتأثر بكل القوة التي تأثرت بها حين استجابت لازدهار الربيع وطيران القبرة. وإن لم تحس ما أحسته «ببا» في نشوتها وهي تجيل بصرها في جوانب الطبيعة حولها، فليس لقراءة الشعر عندك من غناء، وليس من الخطر في شيء أن تعود - وقد فرغت من قراءة القصيدة - إلى أفكارك العالية التي لا تدركها فتاة ريفية مثل «ببا»، فلك أن تستعيد كل آرائك ونظراتك السابقة بعد فراغك من القصيدة، فلتلك الآراء والنظرات كل الحق في أن تقف في ذهنك إلى جانب هذه النظرة الجديدة الساذجة التي أحسستها حين شاركت «ببا» وجدانها، لك أن تستعرض تلك النظرات السابقة وهذه النظرة الجديدة قبل أن تكون عن الحياة فلسفتك الخاصة بك، وقد تصل في تلك الفلسفة إلى نتيجة تختلف عما شعرت به ببا، ورغم ذلك كله فأغنية الفتاة لا تقل في صدقها قيد أنملة. هي صادقة بالنسبة إلى الفتاة وبالنسبة إلى اللحظة الزمنية التي قيلت فيها. هي تعبير صادق أمين عما دار في نفسها، ويستحيل على قارئ الأغنية أن يوقن بصدقها إلا إذا قرأها باذلا كل ما يستطيع من جهد وعناية في الوقوف عند ألفاظها لفظة لفظة، يستخرج كل ما فيها من مخزون الشعور، ولا تغرينه سهولتها، وإلا أفلت منه لبها وجوهرها.
سر الفن في قراءة الأدب واستساغته متوقف على شيء واحد، هو فن استخراج المعاني من ألفاظها، بحيث تخرج منها كل مخزونها. وقراءة القصيدة من الشعر ليست عملية نقدية عقلية، فلك أن تعمل فيها عقلك ونقدك على أن يكون لذلك المحل الثاني. ولئن جاز لك أن تقرأ القصيدة لتنقدها بعقلك بعد أن تقرأها لتحس ما فيها من مشاعر، فلا يجوز لك قطعا أن تقرأ قصيدة لتحكم على آراء الشاعر بالصواب أو بالخطأ. إن أردت القصيدة لفنها فليس الشاعر فيلسوفا يبسط رأيا يحتمل الصدق والكذب، لكنه شاعر يحس، وله كل الحق في أن يحس كما يشاء. قراءة الشعر عمل فيه شيء من الخلق والإبداع، فيه هضم لما تقرأ، فلم تقرأ شعرا إذا لم تتثمل ما فيه من مشاعر وتجارب؛ إذ القصيدة من الشعر تعبير عن تجربة مارسها الشاعر، هي سلسلة من المشاعر والمناظر والأفكار، تتولد في ذهن الشاعر عن موقف بعينه، ثم تودع في قوارير الألفاظ لتبقى أبد الدهر متعة لمن شاء أن يفتح هذه القوارير، ويستخرج منها ما استودعته؛ فلكي تقرأ القصيدة من الشعر لا بد لك أن تتناول هذه القوارير اللفظية واحدة بعد واحدة ، فتفرغها في شعورك وتتثمل ما أفرغته في دمائك، وليس من اليسير أن تبعث إلى الحياة تجربة الشاعر التي مارسها ومر خلالها وعاشها وهو ينشئ قصيدته، بأن تعيد في نفسك كل ما تولاه من حالات نفسية ومشاعر، وكل ما طاف بذهنه من مناظر وخواطر، هو لا شك مجهود عظيم أن تفعل ذلك، لكنه مجهود لا يقوم به العقل، وإنما يؤديه الخيال. قراءة القصيدة صورة من صور العيش، ولون من ألوان الحياة. أليست حياتنا الحقيقية سلسلة من ردود الأفعال نستجيب بها لطائفة من مؤثرات نصادفها في ظروفنا المحيطة وبيئتنا التي نعيش فيها؟ ثم أليست هذه البيئة مقيدة بما يضبط الكون من قوانين المادة؟ فإذا جاء الشاعر وخلق لنا بخياله بيئة تحللت من قيود المادة وقوانينها، أفلا يوسع من نطاق بيئتنا التي نعيش فيها، ويهيئ لنا بذلك الفرصة أن نستجيب لمؤثرات جديدة؟ إنه يمدنا في شعره بتجربة لا تقف عند حد، أو بعبارة أخرى يمد لنا من مجال الحياة ونطاق العيش أضعافا مضاعفة، لكنك لن تظفر منه بذلك إلا إذا تناولت القصيدة على أنها حياة ستحياها حينا من زمانك، لا فكرة ستناقشها بعقلك لتميز فيها بين الخطأ والصواب، والجيد والرديء. اقرأها بخيالك لتتمرس بتجربتها أولا، ثم اقرأها بعد ذلك - إن شئت - قراءة النقد والتمحيص. وقراءة النقد نوعان؛ نقد أدبي يسأل: إلى أي حد أجاد الشاعر في قصيدته؟ ومعنى السؤال: هل عبرت ألفاظ القصيدة عن تجربة الشاعر تعبيرا حيا ناصعا مكننا أن نعيد الصور إلى أذهاننا حية ناصعة كما مرت به؟ وفي هذا النقد الأدبي لا يجوز أن تبحث أصدق الشاعر في حكم العقل أم كذب، ولا يجوز كذلك أن تسأل أحافظ الشاعر على قوانين الأخلاق وأوضاع العرف أم خرج عليها؛ فالبحث في صدق التجربة أو كذبها، وفي المحافظة على قواعد الأخلاق أو الخروج عليها، ليس من النقد الأدبي في شيء. وإن شئت بحثا كهذا فذلك هو الضرب الثاني من ضروب النقد؛ فليس ما يمنع أن تعود فتقرأ القصيدة للمرة الثالثة لتحكم على ما ورد فيها - كما تحكم على ما يصادفنا من تجارب الحياة - بالخطأ أو بالصواب، بالفضيلة أو بالرذيلة، بل لك أن تحكم عليها من أية ناحية شئت؛ اجتماعية أو سياسية أو خلقية أو دينية، غير أن ذلك شيء والنقد الأدبي شيء آخر، ولا ينبغي أن تخلط بينهما كما يخلط لسوء الحظ معظم النقاد. فللقصيدة إذن ثلاث قراءات؛ قراءة أولى تعمل فيها الخيال لتحيا في التجربة التي مرت بالشاعر، وقراءة ثانية لتنقدها نقدا أدبيا، والنقد الأدبي مقصور على قدرة الألفاظ التي استخدمها الشاعر على التعبير عما أراد، وقراءة ثالثة لتنقدها في معانيها وآرائها ومذاهبها إن خطأ أو صوابا. على أننا نشترط لهذا النوع الثاني من النقد ألا يكون إلا بعد قراءة القصيدة قراءة من النوع الأول، ليس لك أن تحكم على تجربة الشاعر بالصواب أو بالخطأ إلا إذا عشتها كما عاشها، وتمرست أحاسيسها كما تمرسها؛ ففي قصيدة «ببا ماضية» التي أسلفناها وحللناها لا تستطيع أن تقدر القيمة العقلية لقولها: «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير» إلا إن تقمصت شعورها بخيالك أولا؛ لترى بعينيها في موقفها هل ثمة ما يبرر لها أن تحكم بذلك أو ليس هناك ما يبرره. ونحب أن نلاحظ لك في هذا الموضع أن القصائد التي أضافت إلى الفكر الإنساني قسطا أوفر إنما أضافت قسطها ذاك لا بما فيها من فكر خالص، بل بما لها من قوة الشعر. قد يقول الشاعر قصيدة دينية، فيزيد بها من ذخيرة العقيدة الدينية، مع أنها لا تسوق في تأييد تلك العقيدة حجة عقلية واحدة، وكل ما يصنعه هو أن يصور شعوره الديني - كما يحسه - تصويرا يتيح للقارئ أن يستعيد في نفسه ذلك الشعور بعينه إذا ما قرأ القصيدة؛ وإذن فالحكم على القصيدة من الناحية العقلية متوقف على قيمتها الشعرية الخالصة. وهكذا ترى أن ألزم ما يلزمك في الشعر هو فن قراءته باعتباره شعرا لا كلاما يساق لبسط رأي أو عقيدة. ونعود فنكرر أن ذلك الفن مرهون بقدرتك على فهم الألفاظ فهما يستخلص لك كل ما تحتويه في جوفها من تجارب ومشاعر وخواطر ومعان، كأنما هي - كما ذكرنا - قوارير مفعمة مترعة، عليك أن تفرغها وتتمثل ما بها. تلك هي السبيل الوحيدة إن أردت أن تتذوق الشعر بكل ضروبه؛ قصيدة كان أو قصة أو مسرحية. ولنتناول الآن بعض الشعر بالتحليل؛ لنرى كيف يفهم إن فتحت مغاليق ألفاظه وانسكب ما فيها.
قال شاعر عربي في هجاء قوم هذا البيت، الذي قيل عنه إنه أهجى بيت قالته العرب:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لأمهم بولي على النار
فتكاد كل لفظة في هذا البيت تدل على الذم والهجاء؛ فكلمة «إذا» تفيد الشرط المؤقت المعين، وتدل على أن الأضياف لا يعتادونهم إلا في الأوقات القليلة. وسين الاستفعال في «استنبح» تؤذن أن كلبهم ليس من عادته النباح، وإنما يقع منه ذلك نادرا لقلة الضيف. و«الأضياف» جمع قلة يفيد عددا أقل من العشرة؛ إذ لا يقصد هؤلاء القوم إلا نفر قليل. وتعريف الشاعر «للأضياف» بأداة التعريف إشارة إلى أنهم أضياف معهودون؛ إذ لا يقصد أولئك القوم كل ضيف لبخلهم. واستنباح الأضياف للكلب فيه دلالة على أن الكلب لا ينبح إلا بالاستنباح؛ لهزاله وقلة قوته من الجوع والضعف. وقد أفرد الشاعر الكلب ولم يجعل لهم كلابا كثيرة؛ احتقارا لهم وتقليلا من شأنهم. وإضافة الكلب إليهم يزيدهم احتقارا وزراية. وفي كلمة «قالوا» دليل على أنهم قوم بغير خادم يقوم على شئونهم، وأنهم يباشرون حوائجهم بأنفسهم. وجعل الشاعر القول يتجه منهم مباشرة لأمهم؛ ليدل على أنه لم يكن هناك من يخلفها من خادمة في إطفاء النار، فأقام الأم مقام الأمة والخادمة في قضاء الحوائج لهم، وهم من الذلة والضعة بحيث رضوا لأمهم هذا المقام. وأنطقهم الشاعر بلفظ البول وهو ممجوج يدل على أنهم جفاة لا يألفون شيئا من مكارم الأخلاق، خصوصا وأن ذلك اللفظ موجه إلى أمهم. وقوله «على النار» دليل على ضعف نارهم لقلة زادهم، فحسبك أن بولة واحدة من امرأة عجوز تطفئها. واستخدم الشاعر حرف الجر «على» النار ، وفي ذلك إشارة إلى أن حرف الاستعلاء مقصود؛ ليتخيل القارئ صورة بشعة منفرة، صورة الأم وقد استعلت النار، تصب عليها بولها لا تبالي تسترا. وقد لخص الأصمعي مواضع الذم في هذا البيت بعبارة أوجز، فقال: هذا البيت أهجى بيت قالته العرب؛ لأنه جمع ضروبا من الهجاء؛ نسبهم إلى البخل لكونهم يطفئون نارهم مخافة الضيفان، وكونهم يبخلون بالماء فيعوضون عنه البول، وكونهم يبخلون بالحطب فنارهم ضعيفة تطفئها بولة، وكون البولة بولة عجوز وهي أقل من بولة الشابة، ووصفهم بامتهان أمهم وذلك للؤمهم.
هذا بيت واحد يريك في جلاء كم تفيد إذا أطلت الوقوف عند الألفاظ تحللها وتستخرج مضمونها ومكنونها، وبغير ذلك لا تظفر من الشعر بغير الوزن الأجوف والنغمة الخاوية. ولننتقل إلى مثال آخر، فنسير مع الدكتور طه حسين بك في سيره «مع المتنبي» وهو يقرأ له لاميته:
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
فعنده أن الشاعر قد أجرى في القصيدة روحا عذبا غريبا ليس من اليسير وصفه ولا تصويره، ولكنك تحسه إحساسا قويا، بل أنت تقرأ القصيدة فإذا هذا الروح يسبق ألفاظها ومعانيها إلى قلبك، ويشيع في نفسك خفة وطربا، لا تجدهما حين تقرأ أي قصيدة أخرى من قصائد المتنبي. «والغريب أن هذا الروح العذب الخفيف يحتفظ بعذوبته وخفته في القصيدة كلها، ولكنه مع ذلك يتخذ أشكالا، وإن شئت فقل يتخذ ألوانا، وإن شئت فقل يتخذ ألوانا مختلفة، تتباين بتباين المعاني والموضوعات التي يطرقها الشاعر في هذه القصيدة، فهو على عذوبته وخفته حزين شاحب كئيب، يثير في نفسك الحنان والرحمة والألم الهادئ، حين يتغنى الشاعر في هذا الغزل الذي بدأ به القصيدة، فإذا انتهى الشاعر إلى المدح ووصف الموقعة خلع عن هذا الروح العذب الخفيف دائما حزنه وشحوبه وكآبته، واتخذ ثوبا زاهي الألوان إلى أبعد حد، يمسه ضوء الشمس فتضطرب ألوانه، وتتموج تموجا ساحرا، وإذا هو يغلبك على نفسك، وإذا نفسك تتموج معه كما يتموج. والشاعر يصف الحرب وصفا دقيقا، وكانت الحركة النشيطة السريعة أخص ما تمتاز به هذه الحرب ، وهي الجرأة التي لا تسمح بمهل ولا أناة ولا تبيح روية ولا تفكيرا، وإنما هي اندفاع متصل إلى أمام، يزداد عنفه من وقت إلى وقت، ولا يحفل بالمصاعب ولا يقف عند العقاب، وإنما يقتحم كل ما يعترضه ويكتسح كل ما يلقاه، يصعد حين تعترضه الجبال، وينحدر حين ينتهي من القمة إلى السفح، ويعدو حين ينتهي إلى السهل، حركة وجرأة هما أشبه شيء بنشوة النشوان الذي يأتي ما يأتيه عن فرح ونشاط، لا سعة فيهما لتعقل أو تدبر.» «وكذلك فعل سيف الدولة في هذه الحرب، وقد خطرت له فجأة فاندفع إليها من «حران»، لا يلوي على شيء حتى أمعن في بلاد الروم واقتحم ملطية، فلما أراد العودة من درب أرمينية وجد الدرب قد أخذ عليه، وكان خليقا أن يتدبر وأن يقدر أنه قد أخذ من ورائه أيضا، وأن يحتال في اقتحام الدرب، ولكنه أبى أن يضيع الوقت، فكر راجعا في سرعة الطير، واقتحم ملطية مرة أخرى، غير مبال بما كان العدو قد أعد له من أمامه، وبما كان خليقا أن يلحقه من ورائه، ثم انتهى بهذه السرعة الجريئة الغريبة إلى مخرج من بلاد الروم فسلكه، وظن الروم أنه قد انصرف عنهم، ولكنه لم يلبث أن عاد إليهم مرة أخرى، فدمر وخرب وسلب الغنائم والنفوس، ومضى حتى أدرك الفرات واقتحمه اقتحاما على ظهور الخيل، ولم يكد ينتهي إلى آمد ويعلم بعبث الروم حول أنطاكية، حتى خف وأغذ وأخذ الروم عند مرعش وهم قافلون فمزقهم تمزيقا، وأضاف إلى ما كان عنده من الغنائم والأسرى، وأخذ ابن القائد نفسه وعاد مظفرا.» «كان سيف الدولة نشوان قد أسكرته الحرب، فمضى فيها لا يقف ولا يتدبر، وأتيح له النصر، فإذا هذا النصر نفسه يسكر شاعره المتنبي، وإذا هو ينشئ هذه القصيدة صورة دقيقة مطابقة كل المطابقة للأصل الذي أراد وصفه وتصويره؛ فأنت ستحس حين تقرأ هذا الوصف نفس الحركة والنشاط اللذين أحسهما المتنبي حين تبع سيف الدولة في غارته الجريئة السريعة تلك، لا يكاد يطمئن ولا يستقر ولا يستريح.» «وستمضي أنت في قراءة القصيدة كما مضى المتنبي في اتباع سيف الدولة مندفعا من بيت إلى بيت، متنقلا من مقام إلى مقام، صاعدا مع الجيش حين يصعد، ومنحدرا مع الجيش حين ينحدر، ودائرا مع الجيش حين يدور حول العدو، ثم هاجما على الجيش حين يهجم على العدو. ثم إن هذا الروح العذب الخفيف - على احتفاظه بعذوبته وخفته - يخلع هذا الثوب ذا الألوان المشرقة المتألقة إذا فرغ من هذا الوصف، ليتخذ ثوبا آخر ليس شديد التأنق والإشراق، ولكنه حالك بعض الشيء، أو قل قاتم يكاد يمعن في القتوم، لولا أن شيئا من البهجة يترقرق فيه بين حين وحين، وذلك حين يلتفت الشاعر إلى ما وراء سيف الدولة من بلاد المسلمين، وإلى ما حول سيف الدولة من ملوك المسلمين، فلا يرى إلا ذلا وضعة، وإلا خمولا وخمودا، وإلا إقبالا على اللهو وعكوفا على اللذات، وضجيجا وعجيجا لا غناء فيهما ولا طائل منهما في هذا الوقت الذي يجد فيه الجد بين سيف الدولة وعدوه من الروم، فإذا الظفر الذي ينتهي إلى البطولة حينا، وإذا الهزيمة التي تنتهي إلى البطولة حينا آخر، وإذا الثقة بالنفس، والنهوض بالواجب، والاطمئنان إلى الله على كل حال. وإذا فرغ الشاعر من هذا التعريض الحزين الفرح، خلع عن روحه العذب الخفيف ثوبه هذا، فأفاض عليه ثوبا آخر، هو ثوب الفخر بالنفس والاعتزاز بالكفاية الشخصية والبراعة الفنية، وكأنه رضي عن قصيدته وعن فنه بعد أن سمع قصائد الشعراء الآخرين، ورأى فنونهم، وهو ساخط على هؤلاء الشعراء الذين يعجزون عن مجاراته، ويقصرون عن بلوغ غايته، فلا يسعهم إلا أن يسعوا به، ويكيدوا له، ويتألبوا عليه، وهو قد أشرف عليهم وأخذ يرمقهم مزدريا لهم محتقرا لما يقولون ويفعلون. فالمتنبي يبدأ القصيدة بنفسه حزينا مفتخرا، ويختم القصيدة بنفسه مبتهجا منتصرا، ويمنح أكثر القصيدة وخير ما فيها لا لسيف الدولة وحده، بل له ولجماعة المجاهدين معه في سبيل الله، الذائدين عن حوزة الإسلام، وحسب العرب، ولجماعات أخرى من المسلمين ، لاهية عن الجد، ساهية عن المجد، منصرفة إلى المخازي والآثام؛ فالشاعر مغن، والشاعر مادح، والشاعر قاص، والشاعر هاج، والشاعر مفاخر متحمس، والشاعر يجمع أكثر فنون الشعر في هذه القصيدة التي لم تسرف في الطول.»
Page inconnue