De la guidance des prédécesseurs dans la quête du savoir
من هدي السلف في طلب العلم
Chercheur
-
Maison d'édition
دار طيببة،الرياض
Numéro d'édition
الثانية
Année de publication
١٤٢١هـ/٢٠٠١م
Lieu d'édition
المملكة العربية السعودية
Genres
من هدي السلف في طلب العلم
جمع وترتيب: د. محمد بن مطر الزهراني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله البرّ الرحيم، الواسع العليم ذي الفضل العظيم، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الكريم، أما بعد:
فإن من أهم ما يبادر به اللبيب شرَخَ شبابه، ويدئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق الناس بهذه الخصلة الجميلة، وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجليلة أهل العلم الذين حلوا به ذرا المجد والسناء، وأحرزوا به قصب السبق إلى وراثة الأنبياء، لعملهم بمكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآدابه، وحسن سيرة الأئمة الأطهار من أهل بيته وأصحابه، وبما كان عليه أئمة علماء السلف، واقتدى بهديهم فيه مشايخ الخلف ١.
وبعد، فهذه وُريقات جمعت فيها بعض ما وقفت عليه من هدي السلف الصالح ﵏ ورضي عنهم - في طلب العلم، وقد اقتصرت فيها على ما يتعلق بهدي الطالب وبرنامجه في أثناء طلبه للعلم، وقد اكتفيت فيها بجمع المتفرق وترتيب المختلط، محاولًا الانتقاء من النصوص أجمعها وعلى المعنى المراد أدلها مع بعض التعليقات اليسيرة، وهذا أحد أقسام التأليف كما ذكرها صاحب "كشف الظنون" في مقدمته ٢.
وكان السبب الحامل على هذا العمل ثلاثة أمور:
الأول: إلحاح كثير من إخواننا الطلبة، ورغبتهم في معرفة منهج السلف في طلب العلم وهديهم وسمْتهم في ذلك، مع تقاصر همم هؤلاء الطلبة عن تحصيل ذلك من منبعه الأصل؛ كتب السلف أنفسهم، وهي كثيرة ومتوفرة.
الثاني: ما لاحظته من الفوضى في طلب العلم المنتشرة بين كثير من الطلبة
_________
١ اقتباس من مقدمة ابن جماعة لكتابه تذكرة السامع والمتكلم، لمناسبته لموضوع البحث.
٢ انظر كشف الظنون (١/٣٥) .
1 / 5
اليوم الذين افتقدوا أول ما افتقدوا من هدي السلف: آداب الطلب، وأخلاق طالب العلم، ثم هدي وسمت العلماء في العلم والعمل فتزبّبوا قبل أن يتحصرموا، لأنهم لم يسلكوا طريق السلف في التدرج في طلب العلم وفق منهج علمي صحيح واضح، كما ابتلوا أيضًا بالعجلة والتسرع وقلة الفهم، فنتج عن ذلك سرعة الملل والضجر.
الثالث: أنني رأيت المصنفات في هذا الموضوع حديثًا، اقتصرتْ على الآداب العامة لطلب العلم، وخلت من ذكر برنامج عملي للطالب في أثناء تعلمه، هذا فيما وقفت عليه منها.
وقد سميته "من هدي السلف في طلب العلم" وذلك أن منهجهم وهديهم في ذلك أكبر وأوسع مما جمعت، وهذا بعضه، لأنني قصرتُ ما جمعت على ما رأيت الحاجة ماسّة إليه الآن لإخواني من طلبة العلم، وجعلته في ثلاثة فصول:
الأول: في أُسس هديهم ومنهجهم في طلب العلم.
والثاني: في العلم المراد تعلّمه.
والثالث: برنامج عملي لطالب العلم أثناء طلبه العلم.
وقدمت بين يدي تلك الفصول بتمهيد حول اهتمام السلف بآداب الطلب ووسائل تثبيت العلم والتثبّت فيه، وختمته بمُلحقين:
الأول: حول طريقة تعليم المتعلم وإرشاد المعلّم في تعليمه كما يراها ابن خلدون، وعبد القادر بن بدران، وابن باديس.
والثاني: أرجوزة في آداب التعلّم والتفقّه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله الصادق الآمين.
وكتبه: د. محمد بن مطر الزهراني
في تاسع ذي الحجة
من عام سبعة عشر بعد الأربعمائة وألف
بالمدينة النبوية حرسها الله
1 / 6
تمهيد
هذه تنبيهات أقدمها بين يدي هذا البحث تتمة للفائدة:
الأول: أن السلف ﵏ قد اهتموا بموضوع أدب الطلب وآداب الطالب وبرنامج التعلُّم والتعليم من وقت مبكر كما اهتموا بغيرها من الفنون والموضوعات، ويدل على ذلك أمران:
١ - تلك النصوص الكثيرة التي رُويت عنهم في توجيه الطلاب، وبيان المنهج والهدي الذي ينبغي أن يسلكه المعلم والمتعلم، وقد رُوي الكثير من هذه النصوص عن الصحابة والتابعين وأتباعهم ١.
٢ - تلك المؤلفات في هذا الفن، التي ظهرت من وقت مبكر، ككتاب العلم ٢ لأبي خيثمة زهير بن حرب المتوفى (٢٣٤هـ.)، وكتاب آداب المعلمين والمتعلمين ٣ لمحمد بن سحنون المتوفى سنة (٢٥٦هـ.)، ثم تتابع التأليف في ذلك إلى أن جاء حافظا المشرق والمغرب، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، وأبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي - توفي كلاهما سنة (٤٦٣هـ.) - ألف الأول كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وألف الثاني كتاب جامع بيان العلم وفضله، وقد طُبعا مرارًا، وهما من أجمع وأوسع وأشمل ما أُلف في موضوعهما.
_________
١ بل قد ورد كثير من هذه النصوص في السنة المطهرة، وعن ذلك كله انظر: مقدمة سنن الدارمي، ومقدمة سنن ابن ماجه، ومقدمة صحيح الإمام مسلم، والجامع للخطيب، وجامع ابن عبد البر.
٢ طبع بتعليق وتخريج الشيخ ناصر الدين الألباني.
٣ نشره حسن حسني عبد الوهاب في تونس عام ١٩٣١م، وقد قدَّم له بدراسة جيدة الأستاذُ عبد الرحمن بن عثمان حجازي في كتابه المذهب التربوي عند ابن سحنون.
1 / 7
وسلم إذا جلسوا مجلسًا كان حديثهم الفقه إلا أن يقرأ رجل سورة أو يأمروا رجلًا أن يقرأ سورة" ١.
وقال ابن القيم (ت ٧٥١هـ.): "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم على عبده، ما أُعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلّ منهما. بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد مقصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذي أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل ... " ٢.
٤- الحرص على تثبيت العلم والتثبت فيه:
ووسائل التثبت فيه عندهم من أهمها:
أ - التلقي على الشيوخ مع انتقاء الذين يُتلقى عليهم العلم، فلا يتلقون على مبتدع، ولا صاحب هوى، ولا من غير الثقة.
قال الإمام محمد بن سيرين (ت ١١٠هـ.): "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم". وقال أيضًا: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" ٣.
وقال الإمام مالك (ت ١٧٩هـ.): "لا يؤخذ العلم من أربعة: معلن السفه،
_________
١ رواه البيهقي في المدخل رقم ٤١٩.
٢ أعلام الموقعين (١/٨٧) .
٣ مقدمة صحيح مسلم (١٤، ١٥) .
1 / 8
وصاحب هوىً يدعو الناس إليه، ورجل معروف بالكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يكذب على رسول الله ﵌، ولا رجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به" ١.
ب - تمييز الصحيح من السقيم وحديث الثقة من غير الثقة، والحافظ من سيئ الحفظ. قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي (ت ١٩٨هـ.): "لا يجوز أن يكون الرجل إمامًا حتى يتعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم" ٢. وقال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ٣: "واعلم وفقك الله تعالى، أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهمة والمعاندين من أهل البدع".
وأما وسائل تثبيت العلم فمن أهما:
أ - حسن الفهم: وقد سبقت الإشارة إلى اهتمام السلف به.
ب - حفظه والعمل به: قال عامر بن شراحيل الشعبي (ت ١٠٣هـ.): "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل، ونستعين على طلبه بالصوم" ٤.
وقد أُثِر عن غير واحد من السلف واشتهر عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل قوله: "ما بلغني حديث إلا عملت به، وما عملت به إلا حفظته". وقال وكيع بن
_________
١ جامع بيان العلم (٢/٤٨) .
٢ الجامع للخطيب (٢/٩٠) .
٣ صحيح مسلم (١/٨) .
٤ جامع بيان العلم (٢/١١) .
1 / 9
الجراح (ت ١٩٧هـ.): "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به" ١.
ج - مذاكرته مع الشيوخ والأقران:
لم يكتف السلف ﵏ بالحث على المذاكرة وبيان أهميتها وأوقاتها المناسبة، بل تجاوزوا ذلك إلى التطبيق العملي، فمارسوا مذاكرة العلم بشتى الصور مع الشيوخ والأقران.
قال أنس بن مالك ﵁: "كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه" ٢.
وقال الخطيب: "وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء، فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح" ٣.
د - الصبر والمثابرة والدأب في التحصيل: ولا أدَلّ على ذلك من تلك الرحلات إلى البلدان المختلفة وتحمّل المشاق في سبيل تحصيل العلم، وقد بدأها الصحابة الكرام ﵃ حيث كان أحدهم يرحل في الحديث الواحد مسيرة شهر ٤.
قال سعيد بن المسيب (ت ٩٤هـ.): "إن كنت لأَسيرُ في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام" ٥.
_________
١ علوم الحديث لابن الصلاح (ص ٢٢٣) .
٢ الجامع للخطيب (١/٢٣٦) .
٣ تذكرة السامع والمتكلم (ص ١٤٤) .
٤ انظر في ذلك كتاب الرحلة للخطيب البغدادي وقد خصصه لرحلات من رحل لحديث واحد.
٥ طبقات ابن سعد (٥/١٢٠)؛ المعرفة والتاريخ (١/٤٦٨) .
1 / 10
التنبيه الثاني: أن الحافظ بدر الدين بن جماعة المتوفى سنة (٧٣٣هـ.) لما وَقف على تلك المصنفات الكثيرة في هذا الفن، وما كتب من ذلك في أبواب أو فصول ضمن كتب أخرى ككتب المصطلح وغيرها، جمع كل ذلك وأعاد تصنيفه وترتيبه في أبواب وفصول وأنواع، مختصرًا مطوله ومسددًا خلل مختصره، وذلك في كتابه تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ١. فجاء كتابه في هذا الموضوع جامعًا وبالفوائد والفرائد حافلًا.
وقد وقع كتابه في خمسة أبواب فيها ثمانية فصول اشتملت على ستة وتسعين نوعًا، خصص الباب الثاني لآداب العالم، والباب الثالث لآداب المتعلم. فرسم في هذين البابين برنامجًا علميًا للمُعلم مع نفسه، ثم مع درسه، ثم مع طلبته، وبرنامجًا عمليًا للمتعلم في نفسه، ومع شيخه، وفي درسه.
ومن أهم مصادره فيما ظهر لي ما كتبه كل من: محمد بن سحنون، ثم الخطيب البغدادي، والحافظ أبو عمر ابن عبد البر، وكذلك ابن الصلاح والنووي ٢ وغيرهم ﵏ جميعًا.
وقد تميّز عمن سبقه بذكر هذا البرنامج العملي للعالم والمتعلم بصورة واضحة ودقيقة، ويمكن أن يستفيد منها - غالبًا - كل عالم ومتعلم في كل عصر، ولذلك اعتمدتُ على كتابه كثيرًا في بحثي هذا وبخاصة في فصل البرنامج العملي للطالب في أثناء تعلُّمه.
_________
١ طبع في الهند بتحقيق وتعليق محمد هاشم الندوي ثم أعيد تصويره في بيروت.
وقد أعدَّ الدكتور حسن بن إبراهيم بن عبد العال عنه دراسة تحليلية واسعة في كتابه فن التعليم عند بدر الدين ابن جماعة، نشرها مكتب التربية العربي لدول الخليج.
٢ في النوع السابع والعشرين والثامن والعشرين من علوم الحديث لابن الصلاح، وفي مقدمة المجموع للنووي.
1 / 11
التنبيه الثالث: من خلال مطالعتي وبحثي فيما كتبه السلف ﵏ وخاصة المتقدم منها، ألفيتُ أن للسلف منهجًا علميًا وهديًا وسمتًا عمليًا في طلب العلم، ولعل من أهم معالمه ما يأتي:
١- إخلاص النية في طلب العلم لوجه الله ﷿، فلا يبتغون بذلك منصبًا ولا جاهًا عند أحد كائنًا من كان، ولا تكثّرًا من الأموال، ورائدهم في ذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من تعلَّم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عَرَضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" ١.
٢- التدرج في طلب العلم وفق برنامج علمي وعملي، فكانوا يبدؤون بالتأدب والتعبد أولًا - ويحفظ الطالب أثناء ذلك كتاب الله العزيز - ثم يشرع بعد ذلك في طلب العلم على أهله المعروفين.
قال سفيان بن سعيد الثوري (ت ١٦١هـ.):
"ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة" ٢.
وقال عبد الله بن المبارك (ت ١٨١هـ.):
"كانوا يطلبون الأدب ثم العلم" ٣.
وأول ما يبدأ به الطالب تعلم فروض الأعيان حتى يعرف العلم والعمل بها ثم يتدرج بعد ذلك في فروض الكفاية وجزئيات العلم.
وليكن ابتداؤه بعلوم الغاية، وهي العقيدة والفقه المبنيان على الأدلة من
_________
١ انظر تخريجه في أول الفصل الأول من هذا البحث.
٢ انظر حلية الأولياء لأبي نعيم (٦/٣٦١) .
٣ انظر غاية النهاية في طبقات القراء (١/٤٤٦) .
1 / 12
الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، ثم علوم الوسائل ثانيًا، كأصول التفسير، وعلوم القرآن، وعلوم الحديث، وأصول الفقه ونحو ذلك، ولا يجوز تقديم علوم الوسائل على علوم الغاية.
قال ابن خلدون (ت ٨٠٨هـ.): اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات، من التفسير، والحديث، والفقه ...، وعلوم هي وسيلة آليّة لهذه العلوم، كالعربية، والحساب وغيرهما ... فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار ... وأما العلوم التي هي آلة لغيرها، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسع فيها الكلام، ولا تفرع المسائل، لأن ذلك مخرج لها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. اه. ملخصًا ١.
٣- الحرص على الفهم الصحيح، فقد نصّ كثير من السلف على أن أُسس طلب العلم حسن الفهم.
قال الخطيب البغدادي: "العلم هو الفهم والدراية، وليس الإكثار والتوسع في الرواية" ٢.
وقال ابن عبد البر: "والذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر" ٣.
وقال أبو سعيد الخدري: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله
_________
١ مقدمة ابن خلدون، ٥٣٦، الفصل الثلاثون.
٢ الجامع (٢/١٧٤) .
٣ جامع بيان العلم (٢/١٢٤) .
1 / 13
وكان كثير من السلف يوصي تلاميذه بالصبر والتحمل وعدم التعجل. قال يونس بن يزيد: "قال لي الزهري: لا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي" ١. وفي رواية معمر عن الزهري: "من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان" ٢.
٥ - الورع مع الحرص على نشر العلم وإخفاء العمل:
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ﵌ من الأنصار ما فيهم من أحد يسأل عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه، ولا يحدث حديثًا إلا ودّ أن أخاه كفاه" ٣.
وعن مطرّف بن عبد الله بن الشخير قال: "فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع" ٤.
وفي باب (كيف يُقبض العلم) من كتاب العلم من صحيح البخاري: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله ﵌ فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولتُفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا".
_________
١ جامع بيان العلم (١/١٠٤) .
٢ الجامع للخطيب (١/٢٣٢) .
٣ كتاب العلم لأبي خيثمة (ص ١٠ ح ٢١) .
٤ كتاب العلم لأبي خيثمة (ص ٨ ح ١٣) . قال محققه الشيخ ناصر الدين الألباني: ثبت هذا مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رواه الطبراني عن ابن عمر، وحذيفة، وحسن إسناده المنذري. رواه الحاكم عن سعد بن أبي وقاص، وصححه ووافقه الذهبي.
1 / 14
وقال بشر بن الحارث: "إنما يراد من العلم العمل، اسمع وتعلم واعلم وعلّم واهرب، ألم تر إلى سفيان الثوري كيف طلب العلم، فعلِم وعلّم وهرب، وهكذا العلم إنما يدل على الهرب عن الدنيا ليس على طلبها" ١.
٦ - ومن تلك المعالم أيضًا ترك الجدل والمماراة في العلم والبعد عن مجادلة ومجالسة أهل الأهواء، وقد أكثر السلف رحمة الله عليهم من ذم أصحاب الأهواء والتحذير من مجالستهم، أو مجادلتهم، أو الاشتغال بالرد عليهم. وقد أورد أبو عبد الله بن بطة العُكبرى (ت ٣٨٧هـ.) في كتاب "الإبانة الكبرى" عن ذلك أكثر من ثلاثمائة وأربعين نصًا ثم عقب على ذلك بقوله:
"فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق العقلاء، ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا مما حُكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهوٌ يُتعلم ودراية يُتفكه بها، ولذة يُستراح إليها، ومهارشة العقول وتذريب اللسان بمحق الأديان، وضراوة على التغالب واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر، ومغالطة في القياس، وبُهت في المقالة، وتكذيب الآثار، ومكابرة لنص التنزيل، وتهاون بما قال الرسول، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة وضرواة السلاطة وتوغير للقلب، وتوليد للشحناء في النفوس عصمنا الله وإياكم وأعاذنا من مجالسة أهله" ٢.
_________
١ جامع بيان العلم (٢/٨) .
٢ انظر الإبانة لابن بطة (٢/٥٣١) .
1 / 15
الفصل الأول: أُسس منهج طلب العلم عند السلف
...
أسس منهج طلب العلم عند السلف
أولًا: أول العلم النية
قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ١.
وقال ﷿: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ ٢.
وقال ﷾: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ ٣.
وروى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت ٢٥٦هـ.) عن عمر بن الخطاب ﵁ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ٤.
وروى الإمام مسلم بن الحجاج (ت ٢٦١هـ.) عن أبي هريرة ﵁ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "إن أول من تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة ثلاثة، فذكرهم وذكر منهم رجلًا تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلّمتُ العلمَ وعلَّمتُه وقرأتُ فيك القرآن. قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلمَ ليقال: عالم، وقرأتَ القرآنَ ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أُمر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار ... " الحديث ٥.
_________
١ سورة البينة، آية رقم ٥.
٢ سورة الشورى، آية رقم ٢٠.
٣ سورة الإسراء، آية رقم ١٨.
٤ رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي، الحديث الأول. ورواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب "إنما الأعمال بالنيات" (٣/١٥١٥ ح ١٥٥) .
٥ رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (٣/١٥١٤ ح ١٥٢) .
1 / 19
وروى الحافظ أبو عبد الله بن ماجه في مقدمة سننه عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من تعلّم العلم مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عَرَضًا من الدنيا، لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها ١.
وأخرج بإسناده عن جابر بن عبد الله ﵄ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا تتعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار" ٢.
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣هـ.): "يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده بذلك وجه الله ﷾".
وقال أيضًا: "وليحذر أن يجعله سبيلًا إلى نيل الأعراض وطريقًا إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه، ... ". ثم قال: "وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه".
وقال أيضًا: "وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل
_________
١ سنن ابن ماجه، باب الانتفاع بالعلم والعمل به (١/٩٢ ح ٢٥٢) . ورواه الإمام أحمد في مسنده (٢/٣٣٨)، وأبو داود في سننه، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله (٤/٧١ ح ٣٤٦٤) . وإسناده صحيح.
٢ سنن ابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به (١/٩٣ ح ٢٥٤) . قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. ورواه ابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن ص ٥١ ح ٩٠، باب النية في طلب العلم)؛ والحاكم في مستدركه (١/٨٥-٨٦) أول كتاب العلم مرفوعًا وموقوفًا.
1 / 20
للحديث ليس معه منه شيء ... "، ثم ذكر عن الحسن البصري (ت ١١٠هـ.) قوله: "همة العلماء الرعاية وهمة السفهاء الرواية" ١.
قال بدر الدين بن جماعة (ت ٧٣٣هـ.): "يجب أن يقصد المعلم بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحق وخمول الباطل، واغتنام ثوابهم وثواب من ينتهي إليه علمه، وبركة دعائهم له وترحمهم عليه، ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبينهم، وعداده في جملة مبلَّغي وحي الله وأحكامه، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن الله تعالى وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جُحرها يصلون على معلم الناس الخير" ٢.
وقال ﵀: "كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى؛ فإنه لا يتصل شيء من عمله إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وإذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم" اه. ملخصًا ٣.
_________
١ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (١/٨١-٨٥، باب النية في طلب الحديث) . وكلام الحسن في (ص ٩١)، وهو أيضا في جامع بيان العلم لابن عبد البر (٢/٦) .
٢ انظر تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم (ص ٤٧) .
والحديث أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي عن أبي أمامة الباهلي في كتاب العلم من جامعه، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب" كما في تحفة الأشراف للحافظ المزي (٤/١٧٧؛ وتحفة الأحوذي للمباركفوري ٣/٣٨٢) .
٣ المصدر السابق (ص ٦٣)، والحديث رواه مسلم في الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (٣/١٢٥٥ ح ١٤) .
1 / 21
وقال أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (ت ٦٤٣هـ.): "علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وينافر مساوئ الأخلاق ومشاني الشيم، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا، فمن أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه، فليقدم تصحيح النية وإخلاصها، وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها، وليحذر بلية حب الرئاسة ورعوناتها" ١.
وقال الشيخ عبد الحميد بن باديس: "غاية العالم المسلم أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره، أما أكثر الطلاب فمنهم من تكون غايتهم الوظيفة، فهم غفلة من أنفسهم وعن غيرهم، ومنهم من تكون غايته أن ينال الشهادة بالعلم، فهو مثل الأول، فأما الغاية الحقيقية التي ذكرنا فما أقل أهلها لأنها لا ذكر لها في برامج التعليم، ولا اهتمام بها من المعلمين. وحق على كل طالب أن تكون هي غايته، وهو مع ذلك نائل العلم ونائل ما يؤهله للوظيفة إن أبى إلا أن تكون الوظيفة من قصده، ولكنه بالقصد إلى تلك الغاية يكون عاملًا في أثناء تعلمه على تهذيب نفسه، ويكون مصدر هداية الناس في المستقبل، لكن هذا إنما يتم للطالب إذا كان شيوخه يهتمون بهذه الغاية، ويعملون لها، ويوجهون تلامذتهم لها. وما أعز هذا الصنف من الشيوخ" ٢.
_________
١ علوم الحديث، النوع السابع والعشرون (ص ٢١٣) .
٢ ابن باديس لعمار الطالبي (٤/٢٠٣-٢٠٤) .
1 / 22
ثانيًا: منازل العلم (*)
أخرج أبو عمر بن عبد البر النمري القرطبي (ت ٤٦٣هـ.) بسنده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك (ت ١٨١هـ.) يقول: "أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر" ١.
وبسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي عن محمد بن النضر الحارثي قال: "أول العلم الاستماع، قيل ثم ماذا؟ قال: الحفظ، قيل ثم ماذا؟ قال: العمل، قيل ثم ماذا؟ قال: النشر" ٢.
وبسنده أيضًا إلى سفيان بن سعيد الثوري (ت ١٦١هـ.) قال: "كان يُقال: أول العلم الصمت، ثم الاستماع له، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم نشره وتعليمه" ٣.
وأخرج أبو نعيم الأصبهاني (ت ٤٣٠هـ.) بسنده إلى سفيان الثوري قال: "ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم" ٤.
وعن عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت ٢١٦هـ. أو بعدها) قال: "أول العلم الصمت، والثاني: حسن الاستماع، والثالث: جودة الحفظ، والرابع: احتواء العلم، والخامس: إذاعته ونشره".
وعن الضحاك بن مزاحم (ت ١٠٦هـ.) قال: "أول باب من العلم: الصمت، والثاني استماعه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه" ٥.
_________
(*) هذا العنوان مقتبس بنصه من كتاب جامع بيان العلم وفضله، للحافظ ابن عبد البر (١/١١٨)، ومعظم فقراته منقول منه كما في الحواشي الآتية.
١ انظر جامع بيان العلم وفضله (١/١١٨) .
٢ المصدر السابق (١/١١٨)؛ وانظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب (١/١٩٤) .
٣ جامع بيان العلم (١/١١٨)؛ حلية الأولياء لأبي نعيم (٦/٣٦٢-٣٦٣) .
٤ حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (٦/٣٦٢-٣٦٣) .
٥ الجامع للخطيب البغدادي (١/١٩٤) .
1 / 23
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت ١٢٠٦هـ.) ﵀ في مطلع رسالة الأصول الثلاثة: "اعلم - رحمك الله - أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم، وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه. والدليل قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسانَ لَفِي خُسرٍ إِلاَّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواَصَواْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِالصَّبْرِ﴾ " ١.
قال ابن القيم ﵀ (ت ٧٥١هـ.): " ... والعلم ست مراتب: أولها: حسن السؤال. الثانية: حسن الإنصات والاستماع. الثالثة: حسن الفهم. الرابعة: الحفظ. الخامسة: التعليم. السادسة: وهي ثمرته، وهي العمل به، ومراعاة حدوده. فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم إليه منه، كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذا حال كثير من الجهال المتعلمين.
ومن الناس من يحرمه لسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات، وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعه علمًا كثيرًا، ولو كان حَسَنَ الفهم.
ذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: من كان حَسَنَ الفهم، رديئَ الاستماع لم يقم خيره بشره.
وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب العلل له قال: كان عروة بن الزبير يحب مماراة ابن عباس، فكان يخزن علمه عنه، وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزًا" اه. ٢.
_________
١ وانظر زاد المعاد لابن القيم (٣/١٠)، فقد فصل القول في هذه المسائل الأربع.
٢ مفتاح دار السعادة (١/٢٠٢) .
1 / 24
ثالثًا: الأدب قبل الطلب
اشتهر عند السلف إرسال الصبيان عند بلوغهم سنّ التمييز إلى مؤدب، يُحفّظهم القرآن ويُعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة ويشرف على تأديبهم وتربيتهم وتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن، فإذا بلغوا سنَّ التكليف أحضرهم مجالس بعض العلماء ليقتدوا بهم في السمت والهدي والعبادة والعمل، ثم بعد ذلك يخرجهم إلى حلقات العلم.
وقد أُطلق لقب "مؤدب" على جماعة ممن تفرغ لتأديب الصبيان، وعُرف بذلك.
قال أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (ت ١٦١هـ.):
"كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة" ١.
وقال عبد الله بن المبارك (ت ١٨١هـ.):
"طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم" ٢.
وقال أيضًا: "كاد الأدب يكون ثلثي العلم" ٣.
وأخرج الخطيب في الجامع بسنده إلى مالك بن أنس قال: قال محمد بن سيرين (ت ١١٠هـ.):
"كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" ٤.
وبسنده إلى إبراهيم بن حبيب الشهيد (ت ٢٠٣هـ.) قال: قال لي أبي: "يا بُني إيت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم وخُذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن
_________
١ انظر حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (٦/٣١٦) .
٢ غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (١/٤٤٦) .
٣ صفة الصفوة لابن الجوزي (٤/١٢٠) .
٤ الجامع لأخلاق الراوي آداب السامع (١/٧٩) .
1 / 25
ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث" ١.
وبسنده أيضًا إلى عبد الله بن المبارك قال: قال لي مخلد بن الحسين (ت ١٩١هـ.):
"نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث" ٢.
وعن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري (ت ٣٤٤هـ.) قال: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسم بلا روح" ٣.
وعن عيسى بن حماد زغبة (ت ٢٤٨هـ.) قال: سمعت الليث بن سعد (ت ١٧٥هـ.) يقول - وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئًا -: "ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم" ٤.
وقال سفيان بن عيينة (ت ١٩٨هـ.): نظر عبيد الله بن عمر (ت ١٤٧هـ.) إلى أصحاب الحديث وزحامهم فقال: "شنتم العلم وذهبتم بنوره، لو أَدْركَنا وإياكم عمرُ بن الخطاب لأوْجَعَنا ضربًا" ٥.
وعن محمد بن عيسى الزجاج قال:
"سمعت أبا عاصم يقول: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا، فيجب أن يكون خير الناس" ٦.
قال الخطيب البغدادي:
"وقد رأيت خلقًا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويَعُدُّون أنفسهم من أهله المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يَدّعون، وأقلُّهم معرفة بما إليه ينتسبون. يرى الواحد منهم إذا كتب عددًا قليلًا من
_________
١ المصدر السابق (١/٨٠) .
٢ المصدر السابق (١/٨٠) .
٣ انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (١/٨٠)؛ وأدب الإملاء للسمعاني (ص ٢) .
٤ انظر شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص ١٢٢) .
٥ المصدر السابق (ص ١٢٣) .
٦ انظر الجامع للخطيب (١/٧٨) .
1 / 26
الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، أنه صاحب حديث على الإطلاق، ولمّا يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقتْهُ مشقة الحفظ لصنوفه وأبوابه".
وقال: "وهم مع قلة كَتْبِهم له وعدم معرفتهم به، أعظم الناس كبرًا وأشد الخلق تيهًا وعُجْبًا، ولا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالب ذمة، يخْرقون - يجهلون - بالراوين ويعنّفون على المتعلمين، خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه ... " اه. ملخصًا ١.
هذا كلام الخطيب البغدادي الذي عاش ما بين عامي ٣٩٢هـ. و٤٦٣هـ. في بعض محدثي أهل زمانه فماذا سيقول لو أدرك زماننا اليوم مطلع القرن الخامس عشر الهجري، كم من منتسب للعلم اليوم وليس من أهله ومتصدر للتدريس والفتوى وهو ليس من أهل ذلك الشأن، وكم من سالٍّ لسانه وقلمه ولمّا يحط علمه ببعض مسائل العلم فضلًا عن كثير منها، فادعى علم ما لم يعلم وإحسان ما لم يحسن، ورمى غيره بما هو أولى به منه، فإلى الله المشتكى وعند الله تجتمع الخصوم.
رابعًا: اقتران العلم بالعمل
قال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ ٢.
وفي صحيح الإمام مسلم ٣ عن أسامة بن زيد ﵄ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول:
"يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق
_________
١ الجامع (١/٧٥، ٧٧) .
٢ سورة الصف، آية ٢، ٣.
٣ كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يأتيه ... (٤/٢٢٩٠ ح ٥١)، وهو في البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار (الفتح ٦/٣٣١ ح ٣٢٦٧) .
1 / 27