ويؤخذ الشعر على مأخذين في كلماته أو مادته، فهو على أحدهما نسق من الأسلوب يرجع إلى صناعات الكلام، ولا شأن لنا بها فيما نحن بصدده الآن، وهو على المأخذ الآخر - كما قيل - قسم من أقسام المعرفة الهامة، لا يعدو أن يكون في الحقيقة نمطا من التاريخ الرمزي يدخل في المنثور كما يدخل في المنظوم.
وغرض هذا التاريخ الرمزي هو أن يعطي العقل الإنسان ظلا من الرضى في تلك الأحوال، التي تضن طبيعة الأشياء بإرضائه فيها.
فالدنيا في وضعها بمرتبة دون مرتبة الروح، ويحدث من أجل ذلك أن تحس الروح بعظمة أوسع، وخير أحكم وتنوع أعم وأكبر مما تحتويه طبائع الأشياء.
ولما كانت حوادث التاريخ الصحيح لا ترتقي في مداها إلى مرضاة العقل الإنساني، فالشعر يمثل له أعمالا وحوادث أرفع وأقرب إلى البطولة؛ لأن التاريخ الصحيح يعرض لنا الأعمال والحوادث المألوفة التي يقل التنوع فيها، فيهب لها الشعر ندرة وتنوعا غير متوقع أو معهود، وهو ما يظهر منه أن الشعر ينزع إلى الطيبات، ومحاسن الأخلاق وبهجة الخواطر، وبهذه المثابة يعتقد دائما أن له حظا من الإلهام الإلهي مذ كان يرفع العقول ويقومها، من حيث يربطها المنطق بطبائع الأشياء ويثنيها لسلطانها، وبهذه الإيحاءات والمطابقات بين طبيعة الإنسان والسرور مع مجاراتها للنغم الموسيقي والصوت الموزون كان للشعر مدخل وتقدير في عصور البربرية الخشنة، لم يكن لباب آخر من أبواب المعرفة والتعليم.
وللشعر أقسام يشارك فيها التاريخ كتمثيل الأخبار والسير، وتمثيل الرسائل والخطب وما إليها، ولكنه فيما عدا ذلك ينقسم أفضل تقسيم إلى فروع ثلاثة: وهي الشعر القصصي، وشعر التصوير والتشبيه، وشعر الرمز والإيماء أو الكناية.
فالشعر القصصي إن هو إلا محاكاة للتاريخ مع الغلو والتزيد، اللذين أشرنا إليهما فيما تقدم، وموضوعاته على الإجمال هي الحرب والحب والسياسة نادرا، والسرور واللهو في بعض الأحيان.
وشعر التصوير والتشبيه هو التاريخ الشاخص المنظور، أو هو صور الحوادث، كأنها حاضرة من حيث يكون التاريخ صورا لها في الطبيعة كما هي - أي كما مضت.
وشعر الرمز والكناية هو سرد يراد به التعبير عن بعض الأغراض الخاصة أو التورية، وقد كانت هذه الحكمة الرمزية شائعة في الأزمنة القديمة على أمثلة خرافات أيسوب ومأثورات الحكماء السبعة، وما يظهر من استخدام الكتابة الهيروغليفية، وعلة ذلك ضرورتها للتعبير عن المرامي التي هي أدق وأخفى على فهم الغوغاء في تلك العصور؛ لأن الناس في تلك العصور كان يعوزهم تنويع المثل ودقة التورية، وكما سبقت رسوم الهيروغليفية الحروف، كذلك كانت الأماثيل سابقة للحجج والبراهين، وهي حتى الآن وفي كل زمان، تشتمل على حياة جمة ونشاط وافر؛ لأن المنطق لا يساويها في التنبيه والأمثلة الحية.
ولكن للشعر الرمزي بعد هذا غرضا يقابل ذلك الغرض الذي قدمناه؛ لأنه يرسي في سياق التعليم إلى الشرح من طريق المواربة والتلبيس بين الظاهر والباطن، كما يحدث في أسرار الديانة وخفاياها، أو في السياسة أو الفلسفة حين تطوي في خلال الخرافات والأماثيل، واستخدام ذلك في الدين جائز مرخص به كما رأينا، وكان استخدام الخرافات على عهود الوثنية كثيرا ما يفيض في سهولة وخفة، ومن أمثلته تلك الخرافة التي تقول: إن المردة قهروا في حربهم مع الآلهة، فأخرجت أمهم الأرض «الإشاعة» من أحشائها على سبيل الانتقام، فإن هذه الخرافة ترينا أن الأمراء والملوك حين يقمعون الثورات والقلاقل العلنية تعمد ضغينة الجماهير - وهي أم الثورات - إلى خلق النمائم والإشاعات والتهم، التي هي من مادة الثورة ولكنها مؤنثة.
كذلك الخرافة التي تقول: إن الأرباب قد ائتمرت برئيسها جوبيتر؛ لتوثقه وتحد من سطوته، فاستدعى پالاس
Page inconnue