La grande fitna, partie 1 : Othman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Genres
وخاض المتكلمون بعد ذلك في هذه القضية: فأما أهل السنة والمعتزلة فرأوا رأي عثمان، وقالوا: ليس عليه بهذا العفو بأس؛ فهو ولي المقتولين، ومن حق الولي أن يعفو، ولا سيما حين يكون العفو سياسة ملائمة للمصلحة. والعفو هنا كان سياسة ملائمة للمصلحة الداخلية والخارجية جميعا، فأما المصلحة الداخلية فهي فيما قدمنا من رعاية المهاجرين وقريش عامة، إذا قالوا قتل أبوه أمس ونقتله اليوم! وأما المصلحة الخارجية فقد قال أهل السنة والمعتزلة: لو قتل عثمان عبيد الله لشمت عدو المسلمين، قالوا: قتلوا إمامهم أمس ثم قتلوا ابنه بعده. وأما الشيعة فيرون رأي علي وأصحابه ويقولون: ما كان ينبغي لعثمان أن يجتهد في شيء بينه القرآن بنصه تصريحا . وقالوا : ما كان ينبغي أن يلتفت إلى شماتة العدو؛ فالعدو خليق أن يشمت إذا عرف أن إمام المسلمين يعطل حدود الإسلام. وقالوا: إن عمر نفسه قد أوصى بإقامة الحد على ابنه إن ثبت أنه قتل من قتل ظلما؛ فما كان ينبغي لعثمان أن ينقض أمرا أبرمه الإمام قبله وهو يملك إبرامه.
ولكنا نلاحظ أن الله قد بين الحد الذي ينبغي أن يقام على القاتل عمدا بالنص، ولكنه رغب في العفو ودعا إليه بالنص أيضا، فعثمان لم يتعد القرآن حين عفا، وإنما التزمه والتزم ما رغب الله فيه ودعا إليه من العفو. ولا يستقيم قول من قال إن عمر كان قد أبرم الحكم فلم يكن لعثمان أن ينقضه؛ لأن عمر لم يزد - إن صحت الرواية - على أن أوصى بقتل ابنه إذا ثبت أنه قتل ظلما فهو إذن لم يصدر حكما، وإنما أمر بإنفاذ كتاب الله، وبأن تنظر هذه القضية بالحق والعدل. ومن الحق والعدل أن يقضي الإمام بالقصاص، ثم يعفو إن رأى في العفو مصلحة. ولو قد أصدر عمر حكما مبرما ثم مات دون أن يتولى إنفاذه، لكان من حق الإمام الذي يأتي بعده أن يعفو؛ لأن العفو ليس نقضا للحكم وإنما هو إقرار له ثم نزول عن الحق في إنفاذه.
فلا ينبغي أن يقال إذن إن عثمان قد عطل الحد أو خالف عن أمر الله في هذه القضية، وإنما يمكن أن يقال إن عثمان قد أبعد في الحكم والعفو حين أدى الدية من ماله هو، ولم يعزر عبيد الله بالسجن الذي يقصر أو يطول، فهو لم يرزأه في ماله ولا في حريته. وقد روى بعض الرواة أن الإقامة في المدينة لم تستقم لعبيد الله، فأرسله عثمان إلى الكوفة وأقطعه فيها أرضا ودارا. فهذا كله - إن صح - غلو في العفو والحلم، وهو خليق أن يخيل إلى بعض الناس أن عثمان لم يحفل بدم هذين القتيلين، وأنه كافأ القاتل فأدى عنه الدية وحماه من الناس ولم يسجنه، وإنما أقطعه أرضا ودارا. وهذا أيضا خليق أن يخيل إلى الناس أن عثمان أراد أن يراعي السياسة ويترضى قريشا، فأسرف في الأمرين جميعا.
ثم عاب المسلمون المعاصرون لعثمان عليه بعد هذه القضية مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة عن النبي وعن الشيخين وعن عثمان نفسه في صدر من خلافته، وذلك حين أتم الصلاة في منى وقد قصرها النبي والشيخان وقصرها عثمان أيضا أعواما. وقد ذعر المسلمون حقا حين أتم عثمان الصلاة في منى، فسعى بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض، ثم أقبل عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقال له: ألم تصل هنا مع النبي ركعتين؟ قال عثمان: بلى. فقال عبد الرحمن: ألم تصل مع أبي بكر وعمر ركعتين؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: ألم تصل أنت بالناس هنا ركعتين؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: فما هذا الحدث الذي أحدثته؟ قال عثمان: فإني قد بلغني أن الأعراب والجفاة من أهل اليمن يقولون: إن صلاة المقيم اثنتان؛ لأني قد اتخذت بمكة أهلا، ولي بالطائف مال قد ألم به بعد الصدر، فخشيت أن يظن هؤلاء الناس أن صلاة المقيم ركعتان. قال عبد الرحمن: أما خوفك على الأعراب والجفاة والجهال، فقد صلى النبي ركعتين ولم يكن الإسلام قد فشا بعد، فالآن وقد ضرب الإسلام بجرانه ما ينبغي لك أن تخاف. وأما أنك اتخذت بمكة أهلا فإن زوجتك في المدينة تخرج بها إن شئت وتتركها إن شئت. وأما أن لك في الطائف مالا فإن بينك وبين الطائف ثلاث ليال. قال عثمان: هذا رأي رأيته. قال الرواة: وانصرف عبد الرحمن فلقي عبد الله بن مسعود، فقال له ابن مسعود: أرأيت إلى عثمان يصلي أربعا وقد صلى النبي وصلى صاحباه وعثمان نفسه في هذا المكان اثنتين؟ لقد علمت ذلك فصليت بأصحابي أربعا لأني أكره الفرقة. قال عبد الرحمن: فإني قد علمت ذلك فصليت بأصحابي ركعتين، فأما الآن فهو ما قلت.
ومعنى هذا أن الأعلام من أصحاب النبي أنكروا من عثمان إتمامه الصلاة في منى وناظروه في ذلك، فلما رأوا أنه لا يغير رأيه ساروا سيرته وذهبوا مذهبه مخافة الاختلاف.
وقد ينبغي أن نعلم أن مصدر هذا الذي أصاب أصحاب النبي حين رأوا عثمان يتم الصلاة بمنى؛ هو مخالفة السنة الموروثة أولا، وشيء آخر عظيم الخطر جدا في نفوس المهاجرين، وهو أن النبي بعد الهجرة قد اتخذ المدينة له ولأصحابه دار إقامة، واتخذ مكة وما حولها دار غربة، وكره لنفسه ولأصحابه أن يطيلوا الإقامة بمكة، حتى لا يظن أنهم يرجعون أو يهمون بالرجوع إليها بعد أن هاجروا منها، وكره أن يموت بعض أصحابه المهاجرين في مكة. أشفق عليهم من ذلك، وتمنى على الله ألا يتوفاهم في الأرض التي هاجروا منها، وأوصى من استخلفه على سعد بن أبي وقاص حين كان مريضا بمكة ألا يدفنه فيها إن مات، وأمره أن يدفنه في طريق المدينة. فلما صلى عثمان بمنى صلاة المقيم ذكر المهاجرون والأنصار هذا كله وأشفقوا أن يغير عثمان ما جرت به سنة النبي وأصحابه جميعا من اتخاذ مكة دار غربة لا دار مقام. ولكنهم على ذلك ساروا سيرة عثمان، فأتموا الصلاة بمنى ما أتمها مخافة أن يفترق الناس في صلاتهم وهي ركن خطير من أركان الدين.
وليس عندنا شك في أن عثمان قد اجتهد للمسلمين، وخاف على جهالهم وجفاتهم أن يفتنوا. وسواء أصاب في هذا الاجتهاد أم أخطأ فهو لم يرد إلا الخير. وليس أدل على ذلك من أنه لم يتحول من المدينة إلى مكة ولا إلى غيرها، ولم يقبل ما عرض عليه حين اشتدت الفتنة من الإقامة بمكة آمنا لا يجرؤ مسلم أن يصيبه فيها بما يكره؛ لأنه لم يرد أن يستبدل بجوار رسول الله شيئا. ولو شاء لعاذ بمكة حتى تأتيه الأمداد، ولم يكن عليه بذلك بأس. فالضرورة الملجئة كانت قائمة، ولو شاء لتحول إلى الشام كما عرض عليه معاوية ولكنه أبى. فهو إذن لم يحاول أن يجعل من مكة دار إقامة، وإنما نصح المسلمين وقبل المسلمون ذلك منه، فأتموا بإتمامه وإن لم يقتنعوا بما احتج به لهذا الإتمام.
وأنكر خصوم عثمان عليه شيئا آخر يتصل بركن آخر من أركان الدين، فقالوا إنه أخذ الزكاة على الخيل، وكان النبي قد أعفى من زكاة الخيل والرقيق، وسار الشيخان سيرته، فلما استخلف عثمان أخذ الزكاة في الخيل.
ونلاحظ أولا أن الرواية بذلك لم تتواتر ولم يكد يجتمع عليها الرواة، ونلاحظ بعد ذلك أن عثمان لم ينقص من الزكاة وإنما زاد فيها. وأكبر الظن أن النبي وصاحبيه إنما أعفوا من زكاة الخيل حين كانت قليلة وحين كانت جيوش المسلمين في حاجة إلى الفرسان، وحين كان المسلمون إنما يعدون ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل ليرهبوا به عدو الله وعدوهم. فلما كان الفتح وأقبلت الدنيا وكثر المال، جعل المسلمون يتخذون الخيل في بلاد العرب على الأقل تجارة ومالا، فأنفذ فيها عثمان ما أمر الله من الزكاة في كل مال يتخذ للربح والثراء.
وعاب المسلمون على عثمان أنه حمى الحمى، والله ورسوله قد أباحا الهواء والماء والكلأ للناس جميعا. والرواة بعد ذلك يختلفون، فيقول بعضهم إنه حمى الحمى لإبل الصدقة ولإبله وخيله وإبل بني أمية وخيلها. ويقول بعضهم الآخر ويقول عثمان نفسه: إنه لم يحم الحمى لإبل الصدقة. ثم يقال إن المسلمين لاموه في أنه حمى الحمى لإبل الصدقة، فكانت حجته أنه إنما أراد ألا يكون هناك اختلاف بين الأفراد والدولة فيما يتصل بالمراعي؛ فهو قد أراد العافية، ما في ذلك شك. على أنه حين رأى تحرج المسلمين من ذلك وضيقهم به لم يتشدد فيه وإنما تركه واستغفر الله. فليس عليه بذلك بأس أيضا.
Page inconnue