La grande fitna, partie 1 : Othman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Genres
وإنما الشيء الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسية المتباينة. فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنة النبي وسيرة صاحبه كانوا يرون أمورا تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تواجه، كما كان عمر يواجهها، في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية. والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الأمور الجديدة، فيها الطمع وفيها الطموح، وفيها الأثرة وفيها الأمل البعيد، وفيها الهم الذي لا يعرف حدا يقف عنده، وفيها من أجل هذا كله التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها. وهذه الأمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه. فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار، فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة والانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ وهذه بلاد أخرى لم تفتح، وكل شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يسبقون إلى الفتح؟ وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة؟ ثم ما لهم جميعا لا يختلفون في سياسة هذا الملك الضخم وهذا الثراء العريض؟ وأي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش إلى هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ وأي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الأخرى من العرب، وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظا إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشا بعظائم الأمور ويؤثر بني أمية بأعظم هذه العظائم من الأمور خطرا وأجلها شأنا؟
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد وسعيدا على الكوفة بعد أن عزل سعدا، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، وجمع الشام كلها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش غيرها من أحياء العرب، وولى عبد الله بن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص. وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان؛ منهم أخوه لأمه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس.
كل هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها. وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولى وعزل من عزل. وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والأمراء إيثار ذوي قرابتهم بشئون الحكم. وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعا من الناس؛ فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور.
والشيء الذي ليس فيه شك آخر الأمر هو أن عصر عثمان شهد لونا من المعارضة لم يشهده عصر عمر. وكانت هذه المعارضة تكون في الأمصار البعيدة، وهي التي صورناها لك إلى الآن، وكانت هذه المعارضة تكون في المدينة نفسها قريبا من عثمان، وهي التي لم نصورها لك بعد، ونريد أن نصورها فيما سنستقبل من الحديث بعد أن طوفنا معك في الأمصار ذات الخطر، وعلمنا معك علمها وعلم أهلها وجملة ما حدث فيها من الأحداث. والسؤال الذي ينبغي أن يلقى وأن نجتهد في الإجابة عنه هو: أين نشأت المعارضة لسياسة عثمان؛ أنشأت في المدينة مستقر الخلافة، أم نشأت في الأمصار؟ وبعبارة أدق : أنشأت المعارضة بين أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ثم انتقلت عنهم إلى الجند المرابطين في الأمصار، أم نشأت في الجند ثم انتقلت منهم إلى أصحاب النبي في المدينة؟
وواضح جدا أن للإجابة عن هذا السؤال خطرا أي خطر؛ فإن نشأة المعارضة في المدينة معناها أن أصحاب النبي قد كانوا أول من أنكر على عثمان بعض سياسته فتبعهم الناس، منهم من اقتصد ومنهم من أسرف في هذا الاتباع. ونشأة المعارضة في الأمصار معناها أن الجند هم الذين سبقوا إلى الخلاف، ثم أقحموا فيه وفي نتائجه أصحاب النبي، منهم من رضي عن هذا الإقحام، ومنهم من سخط عليه. وسترى أنا نقف في الإجابة عن هذا السؤال موقفا وسطا، وأن نرى المعارضة لم تنشأ في المدينة وحدها، وإنما نشأت فيها وفي الأقاليم، بل لعلها نشأت في المدينة ثم في أطراف الأقاليم حيث الثغور التي يواجه فيها المسلمون عدوهم. وإذا صح ما نذهب إليه - وما نراه إلا صحيحا - فقد يكون هذا دليلا على أن هذه المعارضة - سواء أنشأت في المدينة أم في الأمصار - إنما كانت ظاهرة طبيعية محتومة دعت إليها ظروف الحياة الاجتماعية أولا، وظروف الحياة السياسية ثانيا، وظروف الملاءمة بين أصول الدين وحقائقه وبين طبيعة الحضارة التي اضطر المسلمون إلى لقائها وممارستها آخر الأمر. وما كان لعثمان أن يقاوم طبيعة الحياة ولا أن يقهر هذه الظروف. فليس من سبيل إلى أن يوجد سلطان ضخم كهذا السلطان الذي أتيح للمسلمين، ثم لا يكون فيه حكم ومعارضة لهذا الحكم، ثم لا يكون فيه صراع بين ذلك الحكم وهذه المعارضة، ثم لا يكون فيه آخر الأمر ما كان من الاصطدام الذي انتهى بالمسلمين إلى أن يسلكوا الطريق التي سلكتها الأمم من قبلهم ومن بعدهم؛ لأن تطور النظم السياسية والاجتماعية لم يكن قد بلغ أجله بعد، وهو لم يبلغ أجله إلى الآن، ولأن العقل لم يكن قد بلغ حظه الأوفى من الرقي، وهو لم يبلغه إلى الآن. والذين يرون ما يحدث الآن من الصراع بين النظم الاجتماعية والسياسية خليقون ألا ينكروا ما كان من الصراع حول النظم السياسية والاجتماعية أيام عثمان في القرن الأول للهجرة وفي القرن السابع للمسيح.
فلنعد إلى المدينة بعد هذه السياحة الطويلة في الأمصار، ولنقم بين عثمان وأصحابه وقتا ما، لنرى كيف كانت سيرته فيهم، وماذا كان رأيهم فيه.
الفصل الرابع عشر
وأول ما نلاحظ من ذلك ما كان من الصلة بين عثمان وبين هؤلاء النفر الخمسة الذين اختاروه للخلافة وكانوا أول من بايعه بها، وهم الذين شاركوه في مجلس الشورى بعهد عمر. وكلهم سبق إلى الإسلام فكان من السابقين الأولين، وكلهم أبلى في سبيل الله فأحسن البلاء، وكلهم رضي عنه النبي حياته كلها ومات وهو عنه راض، وكلهم كان من العشرة الذين شهد النبي لهم بالجنة. ثم هم يختلفون بعد ذلك في منازلهم من قريش وقرابتهم من النبي ومكانتهم بين الناس وحظوظهم من الدنيا ونظرهم إليها. وأولهم في رأي عمر وفي رأي عامة الناس وفي رأيهم هم أنفسهم: عبد الرحمن بن عوف، وكان قريب المكانة من النبي من قبل أمه آمنة بنت وهب؛ فهو مثلها من بني زهرة. وكان يسمى في الجاهلية عبد عمرو أو عبد الكعبة، فسماه النبي عبد الرحمن. وكان في الجاهلية صاحب تجارة بارعا فيها، وظل بعد إسلامه صاحب تجارة بارعا فيها، حسن التدبير للمال، ماهرا أي مهارة في التماسه والظفر به، ثم في استثماره والإنفاق منه في وجوه الخير.
ولما هاجر إلى المدينة نزل على سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر إلى شطر مالي فخذه، ولي زوجتان فانظر إلى أيهما أعجب إليك فأطلقها لك. قال عبد الرحمن: بارك الله لك! ولكن إذا أصبحت فدلوني على سوقكم. فلما أصبح غدا على السوق، فباع واشترى وربح وعاد مع المساء ومعه سمن وأقط. وأقام في المدينة وقتا ما، ثم أقبل ذات يوم على النبي وعليه ثياب مزعفرة، فلما سأله النبي عن ذلك قال: تزوجت. قال النبي: «فما أصدقت؟» قال: «وزن نواة من ذهب » قال النبي: «فأولم ولو بشاة.» وكان عبد الرحمن يقول: «لقد رأيتني وما أرفع حجرا إلا ظننت أني سأجد تحته ذهبا أو فضة.» ومعنى ذلك أنه كان موفقا في السعي إلى المال مسددا في التماسه. ثم لم تتصل إقامته في المدينة حتى أصبح من الأغنياء. وقد قدمنا ما روي من قول النبي له: «إنك غني، وما أراك تدخل الجنة إلا زحفا، فأقرض الله قرضا حسنا يطلق لك قدميك.» وقدمنا كذلك ما روي من حديث عائشة حين أنبئت بمقدم عير عبد الرحمن وما كان من تصدقه بالعير كلها وما حملت. وقدمنا كذلك ما روي من أن عبد الرحمن قد ترك ميراثا ضخما كان منه ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس وأرض كانت تزرع على عشرين ناضحا، ومن أن إحدى نسائه الأربع أخرجت من نصيبها وهو ربع الثمن، بمال بين الثمانين ألفا ومائة الألف. فكل هذا إن صور شيئا فإنما يصور ثروة ضخمة نامية لم تنقصها الصدقة الدائمة والبر المتصل دائما لأزواج النبي، ثم لذوي قرابته من بني زهرة، ثم لغيرهم من عامة المسلمين.
ولم يكن عبد الرحمن على هذا كله مفرطا في المال، وإنما كان يدبره ويثمره ويحرص عليه كأحسن ما يكون التدبير والتثمير والحرص. وقد روى ابن سعد بإسناده في ترجمة عمر أن عمر احتاج إلى شيء من المال، فأرسل إلى عبد الرحمن يستقرضه منه. فقال للرسول: قل له يقترض من بيت المال. ولقيه عمر بعد ذلك فلامه في دعابة قاسية، وقال: أردت أن أقترض من بيت المال، فإذا أدركني الموت ولم أرد ما اقترضت جعلتم تقولون: دعوه لعمر وآل عمر.
Page inconnue