La grande fitna, partie 1 : Othman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Genres
فقد كان عثمان إذن أحد هؤلاء العشرة، وليس من المسلمين إلا من عرف لعثمان سابقته في الإسلام، وإصهاره إلى النبي مرتين، وحسن بلائه في الجهاد بنفسه وماله في سبيل الله.
ولما انتقل النبي إلى جوار ربه، وكانت البيعة لأبي بكر، كان عثمان من الذين أسرعوا إلى هذه البيعة ونصحوا للخليفة، وهو الذي كتب عهد أبي بكر إلى المسلمين باستخلاف عمر؛ أملى أبو بكر وكتب عثمان، ويقال إن أبا بكر أخذته أثناء الإملاء إغماءة وقد وصل إلى قوله: «إني استخلفت عليكم»، فأتم عثمان جملة أبي بكر وسمى عمر، فلما أفاق أبو بكر من غشيته طلب إلى عثمان أن يقرأ عليه ما أملى، فقرأ حتى أتى على اسم عمر، فكبر أبو بكر وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين وقال: خشيت ألا أفيق فسبقت إلى ما أريد، وإنك لها لأهل. فلما بويع عمر كان عثمان من أول الذين بايعوه، وأنفق أيامه ناصحا له مشيرا عليه، حتى إذا طعن عمر وطلب إليه المسلمون أن يعهد لهم، لم يرد أن يعهد ولم يرد أن يتركهم بغير مشورة عليهم، فاقترح عليهم نظام الشورى وجعلها في هؤلاء الستة الذين مات النبي وهو عنهم راض، ولم يرد أن يضم إليهم ابن عمه سعيد بن زيد بن نفيل، مع أنه من العشرة الذين كان الناس يرون أن رسول الله قد ضمن لهم الجنة؛ لأنه كره أن تكون الخلافة في عدي مرتين، ولم يحضره الشورى لأنه خاف أن يميل إليه بعض أهل الشورى لرضا النبي عنه ولمكانه من عمر. وأحضر ابنه عبد الله الشورى ولم يجعل له من الأمر شيئا؛ لأنه كره أن يليها من آل الخطاب رجلان من جهة، ولأنه كان يرى في ابنه ضعفا عن النهوض بأعباء الخلافة من جهة أخرى.
وأحسب أن أبا بكر لو عمر وأدرك ما أتيح لعمر أن يدرك من الفتح واتساع رقعة الدولة وتشعب أمورها وتعقد المصالح فيها، وهذه المشكلات الكثيرة الخطيرة التي كانت تنشأ في كل يوم، يتصل بعضها بشئون السياسة، ويتصل بعضها بشئون الإدارة، ويتصل بعضها بالمحافظة على حقائق الدين ودقائقه مع هذا التطور العنيف الذي كان يطرأ على أمور المسلمين بين يوم ويوم - أقول: لو قد عمر أبو بكر وشهد من هذا كله ما شهد عمر، لكان خليقا أن يقف الموقف الذي وقفه عمر وأن يتردد بين الاستخلاف وترك الاستخلاف كما تردد. ولعله كان خليقا أن يقترح نظاما يشبه النظام الذي اقترحه عمر لانتخاب الخليفة شبها قويا أو ضعيفا، فقد مات أبو بكر رحمه الله وأمر المسلمين قريب من حالهم التي تركهم عليها النبي: قد أعاد العرب إلى الإسلام بعد أن ارتدت عنه، ثم رمى بها إلى الأقطار الخارجية فبدأت الفتح ولكنها لم تمعن فيه. أما في أيام عمر فقد بدأ المسلمون سيرة جديدة من كل وجه؛ أمعنوا في الفتح إمعانا عظيما، فأخرجوا الروم من الشام والجزيرة ومصر، ونقضوا سلطان الفرس في بلادهم نقضا، احتلوا جزءا عظيما جدا من هذه البلاد، ونظروا فإذا هم مضطرون بحكم الإمعان في الفتح إلى أن يزدادوا فيه إمعانا، يشددون ضغطهم على الروم حتى يخرجوا من الساحل الشرقي للبحر الأبيض، وحتى ينشئوا بينهم وبينهم حدودا يمكن الاطمئنان إليها، بل حتى يبلغوا قسطنطينية ويزيلوا ملك الروم كما أزالوا ملك الفرس، ثم ليمضوا في فتحهم بلاد الفرس حتى يحسموا أمرهم حسما، وحتى يبعدوا حدود الدولة في الشرق إلى أقصى ما كان يمكن أن تصل إليه الجيوش، وقد اضطرهم هذا إلى أن تكون لهم سياسة حربية مستقرة مطردة تلائم التوسع في الفتح والانتشار في الأرض؛ فقد يجب أن ينشئوا لهذا الفتح المتصل أداته الدائمة، وهي الجيوش التي تمضي للغاية التي رسمت لها، وهذه الجيوش يجب أن تأتلف من هذه المادة الغريبة التي لم تألف الحرب المنظمة بعد، من هؤلاء العرب البادين الذين عرفوا الغارات وأتقنوها، ولكنهم لم يعرفوا مقابلة الجيوش المنظمة المدربة في أرض لا علم لهم بها ولا خبرة لهم بما يكون فيها من المصاعب والعقاب.
ونحن نقرأ تاريخ الفتح الإسلامي فنعجب به، ويبهرنا ما أتيح للعرب فيه من قوة وسرعة ومضاء، ثم نريح أنفسنا من البحث والتحليل والاستقصاء، فنرد أمر هذا كله إلى تصديق الوعد الذي قدمه الله للمسلمين في القرآن، وإلى الإيمان الذي استقر في قلوب المسلمين فدفعهم إلى مواجهة المصاعب عن ثقة بالله واطمئنان إلى تصديق وعده وإنزال نصره عليهم في المواطن كلها.
وما من شك في أن هذا كله حق، وفي أن المسلمين قد اندفعوا إلى فتوحهم بهذا الإيمان القوي الذي يقهر المصاعب، ويذلل العقبات ويحل المشكلات. ولكن لكل شيء أسبابه ووسائله، وهذه الأسباب والوسائل قد احتاجت إلى كثير من الجهد، وإلى كثير من التدبير والتقدير وإعمال الرأي لتجتمع هذه القلوب المفترقة أولا، ولتندفع إلى مغامراتها خارج بلاد العرب ثانيا، ولتهاجم هذه القوى الهائلة المنظمة بقوى هائلة منظمة أيضا؛ فلم يكن من الأمور السهلة ولا من المشكلات اليسيرة، إنشاء هذه الجيوش القوية الضخمة المنظمة التي رمى أبو بكر وعمر بها أقطار العالم القديم، ولم يكن من السهل ولا من الهين إمساك هذه الجيوش في مواقفها بعد المواقع وبعد الانتصار أعواما متصلة، مع ما نعلم من عادة العرب في غاراتها وحروبها القديمة؛ فقد كانت تحارب لتنتصر وتغنم، ثم لتعود بعد ذلك مسرعة إلى منازلها فتنعم بالغنيمة والسلم. فأما أن تقدم على حرب تعرف أولها ولا ترى آخرها، وهي بعد ذلك لا تشبه ما ألفت من حروبها في الجاهلية ومن غزواتها مع النبي، بل من حروبها أيام الردة؛ فهذا هو الشيء الجديد الذي احتاج إلى جهد لا نكاد نتصوره. وقد بذل عمر وأصحابه وقادته هذا الجهد مقدمين غير محجمين، وحازمين غير مترددين؛ فكتب لهم ما تمنوا من التوفيق، ويكفي أن نتصور تمصير الأمصار وإنزال الجيوش فيها وتنظيم المناوبات بين هذه الجيوش التي استقرت في هذه الأمصار، وأن نتصور أن هذه الجيوش قد ألفت من قوم بادين لم يألفوا الحضارة أو لم يألف كثير منهم الحضارة - يكفي أن نتصور هذا كله لنقدر بعض المشكلات الحربية الخطيرة التي نفذ منها عمر وأصحابه نفوذا حقا.
ونحن كذلك نقرأ في التاريخ تدوين الدواوين، فنمر به مسرعين معجبين، ولو قد وقفنا عنده وقفة قصيرة وتبينا أن هذه الكلمة القصيرة لا تدل على أقل من إحصاء دقيق للمحاربين وقبائلهم ومنازلهم من هذه القبائل وأسرهم التي يعولونها أو ينبغي أن تعولها الدولة عنهم - لو قد فعلنا هذا لعرفنا أن هذا التجديد الخطير في حياة أمة بادية لم تعرف من قبل كتابا ولا حسابا ولا إحصاء؛ لم يكن من الأشياء الهينة التي يمر الناس بها مسرعين. فإذا صحبنا هذه الجيوش في مسيرها إلى الحرب، ثم في استقرارها بالأمصار بعد أن كانت المصادمات الكبرى بينها وبين جيوش الفرس والروم، ثم فكرنا في هذا النظام الرائع الذي وضعه عمر عن استشارة أصحابه لتنظيم المناوبة بين هذه الجيوش المستقرة في الأمصار بحيث لا يغيب الرجل في الغزو أو في الحرب العاملة عن أهله أكثر من ستة أشهر، حتى أصبح التجمير - وهو تجاوز هذه المدة بالمحاربين - إثما لا يصح للسلطان أن يتورط فيه - عرفنا مقدار ما كان ينبغي للخليفة وأعوانه أن ينفقوا من الجهود المادية والمعنوية المتصلة الملحة ليواجهوا مشكلات السياسة الحربية.
ولم تكن مشكلات هذه السياسة وحدها هي التي تشغل الخليفة وأعوانه ومشيريه؛ فقد كانت هناك مشكلات إدارية ليست أقل منها خطرا ولا أهون منها شأنا، فهذه البلاد التي فتحت على المسلمين كانت بلادا لها سابقة في الحضارة، وتفوق في العمران، ولها نظمها المألوفة التي تتباين فيما بينها بتباين الأقطار والأقاليم. ولم يكن بد لهذه البلاد من أن تدار بعد الفتح كما كانت تدار قبل الفتح، فلم يكن الفتح الإسلامي فتح تخريب وتدمير، وإنما فتح تأمين وتعمير، ولم يكن من الممكن أن يصبح العرب فجأة مهرة في الإدارة متقنين للسياسة قادرين على أن يكفوا عن أنفسهم شر المغلوبين من ورائهم، ويؤمنوا هؤلاء المغلوبين على أنفسهم وأموالهم ومرافقهم، ويأخذوا من هؤلاء المغلوبين ما يمكنهم من إقرار الأمن والمضي في الحرب والاتساع في الفتح، فلم يكن لهم بد إذن من أن يحتفظوا بالإدارات التي وجدوها في تلك البلاد حين أخضعوها لسلطانهم، ومن أن يراقبوا هذه الإدارات مراقبة دقيقة متصلة تكفيهم ما يمكن أن تقدم عليه من غش لهم أو مكر بهم أو تأليب عليهم، وليس شيء من هذا كله بالأمر اليسير.
ثم هناك مشكلات أخرى تتصل ببلاد العرب نفسها؛ فقد ينبغي للسلطان أن يجد السياسة التي يضبط بها هذا الشعب البادي الذي لم يألف الطاعة ولم يتعود الخضوع، وأن يضبطه في الوقت الذي يأخذه فيه شبابه وأولي القوة من رجاله؛ ليرسلهم إلى أماكن نائية قد يعودون منها وقد لا يعودون. ونحن نقرأ في غير مشقة أنباء التعبئة العامة حين تفرضها الظروف على هذا الشعب الحديث أو ذاك، فنعجب لذلك ونعجب به. ولكنا لا نتعمق في دقائق التعبئة العامة ومشكلاتها، ولا نقدر أن لهذه التعبئة في الشعوب الحديثة نظما مقررة متقنة لم ترتجل ارتجالا، وإنما صنعت صنعا بعد التجربة الدقيقة والمراس الطويل، فكيف بأمة بادية ليس لها في الحروب العظيمة سنة، وليس لها بالتعبئة المنظمة عهد، وإنما هي تواجه هذا كله للمرة الأولى من غير تجربة ولا مغالاة ولا معاناة ولا اختبار!
هذه ألوان يسيرة من المشكلات التي واجهت عمر، وكانت خليقة أن تواجه أبا بكر لو مدت له أسباب الحياة، وكان من الطبيعي أن تواجه الخلفاء الذين يأتون بعد عمر. فأي غرابة في أن يشقى عمر بخلافته شقاء عظيما! وأي غرابة في أن يحزم أمره ويمضي عزمه ويشمر عن جد هائل فلا ينام ولا ينيم! ثم أي غرابة بعد ذلك في أن يلتمس بين أصحابه ومعاصريه من يستطيع أن يعهد إليه بمواجهة هذه المشكلات وما هو أعسر منها عسرا وأشد منها تعقيدا، فلا يكاد يظفر به أو يطمئن إليه!
والمشكلة بعد ذلك ليست مشكلة إدارة وسياسة وحرب ليس غير، ولكنها مشكلة تتعقد بهذا التراث الديني الذي يجب أن يقوم الخليفة عليه ليحميه ويحفظه ويصونه، ويمضي به في الطريق التي مضى فيها النبي بأمر من ربه. فلو قد كان الأمر أمر فتوح وإدارة وسياسة ليس غير، لمضى فيها العرب كما مضى غيرهم من الأمم التي خرجت من البداوة إلى الحضارة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخضوع إلى التسلط والاستعلاء؛ ولكن الأمر أمر فتح في حدود معينة قد رسمها الإسلام، وقوامها رفع المغلوبين إلى مكانة الغالبين بإذاعة العدل الكامل الشامل فيهم من جهة، وبينهم وبين الذين قهروهم من جهة أخرى؛ فلم يكن الفتح كما صوره الإسلام وكما تصوره النبي وصاحباه فتح تغلب وجباية، وإنما كان فتح إصلاح وهداية.
Page inconnue