La grande fitna (Deuxième partie) : Ali et ses fils
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Genres
وقد أشرنا إلى بعض ذلك حين ذكرنا كآبة المنتصرين يوم النهروان، وما اندس إلى قلوبهم من الحزن على من قتل في ذلك اليوم من الخصم والولي جميعا، فقد كان أولئك وهؤلاء أبناءهم وإخوانهم وصديقهم وذوي عصبتهم، فإذا أضفنا إلى ذلك أن عليا منذ نهض بأمر الخلافة لم يدفع جيوش المسلمين من أصحابه إلا إلى هذه الحرب الوبيلة، التي تقطع الأرحام وتوهي العرى وتفسد الصلات التي يجب أن ترعى، حرب الآباء للأبناء وحرب الإخوان للإخوان وحرب الصديق للصديق والولي للولي، أقول: إذا أضفنا هذا كله عرفنا أن أهل العراق معذورون إن شاع الملل في نفوسهم وكرهوا هذا الصراع الذي لا يعقبهم إلا حسرة وحزنا، وليس على الإمام في ذلك لوم، وما ينبغي أن يلومه فيه لائم، فقد كان يؤمن أشد الإيمان وأنقاه بأن على المسلمين أن ينصروا الحق مهما يكلفهم ذلك من جهد، ومهما يجر عليهم ذلك من خطب، ومهما يدفعهم ذلك إلى المكروه.
وكان أصحابه يرون ذلك كما كان يراه، يؤمنون به على أنه الدين؛ ولذلك بذلوا نفوسهم ودماءهم يوم الجمل، وبذلوها في صفين، وكانوا يهمون ببذلها مرة أخرى، قد نهضوا لذلك ومضوا إليه ولكنهم اضطروا إلى النهروان ليحموا ظهورهم وليؤمنوا من وراءهم وما وراءهم من الأهل والمال، فلم يجنوا في النهروان إلا شرا، أضافوا دماء إلى دماء وحزنا إلى حزن وحسرات إلى حسرات، وهم بعد ذلك قد ألفوا منذ أيام أبي بكر وعمر جيوشا أرصدت للفتح، وعبئت لبسط سلطان الإسلام، واستعدت لقتال العدو من غير المسلمين، وقد امتحنوا بقتال المسلمين مرات فلم يروا إلا شرا. وهم ينظرون فيرون الفتح قد وقف، وسلطان الدولة قد أخذ يضطرب في الثغور؛ طمع الروم في الشام وهموا بالغزو فلم يتقهم معاوية إلا بالمال، وجعلت الثغور الشرقية تضطرب على عمال علي نفسه، فلا يكاد يردها إلى الطاعة إلا بعد الجهد أي الجهد، والعناء أي العناء.
وهم يرون بعد هذا كله قوما من خيار أصحاب النبي قد اعتزلوا الفتنة واجتنبوا الحرب، وكرهوا أن يقاتلوا أهل القبلة، وأن ينصبوا الحرب لقوم يقولون: «لا إله إلا الله» ويشهدون بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من كسر سيفه؛ لأن سيوف المسلمين قد أرصدت لقتال العدو لا لقتال الصديق.
وليس كل الناس من اليقين وقوة الإيمان ومضاء العزم وتصميم الرأي بحيث كان علي رضي الله عنه، فليس غريبا إذن أن يجتمع هذا كله على هؤلاء الناس فيثير في نفوسهم الحزن، ويشيع في قلوبهم الشك، ويقر في ضمائرهم هذا الندم الغامض الذي يدفع أصحابه إلى الحيرة، والذي يفل الحد ويثبط الهمم.
هذا كله إلى أن أصحاب علي في العراق كانوا يجدون في السلم والأمن راحة مغرية ودعة مطمعة، فهم قارون في أمصارهم يوفر عليهم فيئهم في غير حرب، وقد سن فيهم علي سنة لم يألفوها من قبل، أشار بها على عمر فلم يستجب له، فكان طبيعيا أن ينفذها حين يصير السلطان إليه، فقد أشار علي على عمر حين استشار الناس في هذا المال الكثير، الذي أخذ يحمل إليه من الثغور، بأن يقسم كل ما يحمل إليه من هذا المال على الناس حتى لا يبقى منه في بيت المال شيء، فلم يقبل عمر هذا الرأي وإنما قبل رأي الذين أشاروا عليه بتدوين الديوان وفرض الأعطيات للناس.
فلما صار الأمر إلى علي جعل يقسم ما يأتي من المال إثر وصوله على الناس، بعد أن يحتجز منه ما ينبغي أن ينفق منه في المرافق العامة، ولم يكن علي يكره شيئا كما كان يكره الادخار في بيت المال، كان يتحرج من ذلك أشد التحرج، حتى روي أنه كان يحب بين حين وحين أن يأمر فيكنس بيت المال ويرش، ثم يأتي فيصلي فيه ركعتين. كان يكره أن يلم به الموت فجأة ويترك في بيت المال شيئا لم يردده إلى أصحابه، فكان يقسم على الناس الفاكهة حين تحمل إليه الفاكهة قلت أو كثرت، وكان يقسم عليهم العسل والزيت وأشباه العسل والزيت، حتى قسم عليهم ذات يوم إبرا وخيطا، فقد كان السلم إذن محببا إلى هؤلاء الناس الذين كان يحمل إليهم فيء الثغور وخراج ما فتح على المسلمين من أرض المشرق، فلا يكاد يبلغ المصر حتى يصير في أيديهم قليلا كان أو كثيرا.
كان هذا السلم محببا إليهم، وكان على كل حال أحب إليهم من هذه الحرب العقيم التي لا غنم فيها، وفيها الغرم كل الغرم، وفيها بعد ذلك قتل الولي والصديق.
وكذلك مضى أصحاب علي في إيثار الراحة والدعة والنكوص عن الحرب كلما دعوا إليها.
ثم جاء مكر معاوية فأضاف مالا إلى مال، وثراء إلى ثراء، وزاد السلم حبا إلى سراتهم ورؤسائهم؛ فقد اتصلت كتب معاوية إلى هؤلاء السراة والرؤساء تحمل إليهم الوعود والأماني، وتقدم بين يدي الوعود والأماني العطايا والصلات، يعجل من ذلك بما يرغب في عاجله، وما يغري قليله المعجل بكثيره الموعود، حتى اشترى ضمائر هؤلاء السراة والرؤساء وأفسدهم على إمامهم، وجعلهم بالقياس إليه منافقين، يعطونه الطاعة بأطراف ألسنتهم، ويطوون قلوبهم على المعصية والخذلان، ويذيعون ذلك فيمن وراءهم من الناس.
Page inconnue