La grande fitna (Deuxième partie) : Ali et ses fils
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Genres
فذلك الفتى الذي أمره علي برفع المصحف لأهل البصرة يوم الجمل، يأخذ المصحف بيمينه، فإذا قطعت أخذه بشماله، فإذا قطعت أخذه بأسنانه أو بمنكبيه حتى يقتل، ورجل آخر يصرع وتصيبه ضربة قاتلة فينشد الشعر وهو محتضر يذم به هذا ويمدح به ذاك، إلى غير ذلك من الأخبار والأشعار التي يظهر فيها التكلف والاختراع.
والناحية الثانية هي ما كان من أصحاب الجدل، ومن أولئك الذين أمدوهم بالأخبار والأحاديث يؤيدون بها مذاهبهم وآراءهم. ويزداد الأمر في هذه الناحية تعقيدا وعسرا لأنه يتصل بالدين ؛ فالجدال بين الفرق لم يكن عند القدماء جدالا في أمور الدنيا، وإنما كان جدالا في أصول الدين وفيما ينبني عليها من الفروع، فكان من اليسير أن يتهم المجادلون خصومهم بالكفر والفسق والزندقة والإلحاد، وأن يشنعوا عليهم ما شاء الله مما يصح لهم من الحديث والسير وما يبتكر لهم ابتكارا.
ومهما يكن من شيء، فالبلاذري لا يذكر ابن السوداء وأصحابه في شيء من الفتنة أيام عثمان وأيام علي، والطبري ورواته الذين أخذ عنهم والمؤرخون الذين أخذوا عنه فيما بعد، يذكرون ابن السوداء وأصحابه في أمر الفتنة أيام عثمان وفي العام الأول من أيام علي، ثم ينسونهم بعد ذلك. والمحدثون وأصحاب الجدل متفقون مع الطبري وأصحابه فيما ذهبوا إليه، إلا أن المحدثين وأصحاب الجدل ينفردون من دون الطبري وأصحابه بشيء آخر، فيزعمون أن ابن السوداء وأتباعه ألهوا عليا وأن عليا حرقهم بالنار. ولكنك تبحث عن هذا في كتب التاريخ فلا تجد له ذكرا، فلسنا نعرف في أي عام من أعوام الخلافة القصيرة التي وليها علي كانت فتنة هؤلاء الغلاة، وليس تحريق جماعة من الناس بالنار في الصدر الأول للإسلام وبين جماعة من أصحاب النبي ومن صلحاء المسلمين بالشيء الذي يغفل عنه المؤرخون فلا يذكرونه ولا يوقتونه، وإنما يهملونه إهمالا تاما.
وكل ما رواه المؤرخون هو ما ذكره البلاذري في حديث قصير وقع إليه من أن قوما ارتدوا بالكوفة فقتلهم علي، وحكم الإسلام فيمن ارتدوا معروف، وهو أن يستتاب فإن تاب حقن دمه، وإن لم يتب قتل، فلا غرابة إذن في أن يقتل علي نفرا ارتدوا ولم يتوبوا، إن صح هذا الخبر. وإن كان البلاذري لم يسم أحدا ولم يوقت لهذه الحادثة وقتا، وإنما رواها مطلقة إطلاق من لا يطمئن إليها. فلندع إذن ابن السوداء هذا وأصحابه، سواء أكان أمرهم وهما خالصا أم أمرا غير ذي خطر بولغ فيه كيدا للشيعة، ولنعد إلى علي وقد استقر بالكوفة، وإلى المحكمة وقد استقرت بحروراء.
الفصل الخامس والعشرون
فلم يكن علي وأصحابه مطمئنين إلى خروج هذه الخارجة التي انتبذت من الجماعة مكانها بحروراء، ولم تكن هذه الجماعة نفسها مطمئنة الاطمئنان كله إلى ما هي مستقبلة من أمرها. وآية ذلك أنهم أقاموا على حربهم شبث بن ربعي التميمي، فلم يلبث إلا قليلا حتى رجع إلى الكوفة وأقام مع الجماعة على ما كانت مقيمة عليه. وكان علي يرجو أن يستصلح هؤلاء الناس، وكان هؤلاء الناس أنفسهم يأملون أن ينتهي الأمر بينهم وبين قومهم إلى مخرج من هذا المأزق الذي تورطوا فيه، فكانوا يوفدون وفودهم إلى علي يفاوضونه ويناظرونه ويدعونه إلى استئناف القتال مع عدوهم من أهل الشام، وكان علي يرد على أولئك الوفود بأنه لم يكره القتال وإنما هم الذين كرهوه وجزعوا منه، وبأنه قد أعطى معاوية وأصحابه ميثاقا على القضية؛ فليس ينبغي له إلا أن ينزل عند ما أعطى من الميثاق، وكانت الوفود ترجع إلى أصحابها بما سمعت من كلام علي فيزداد إصرارهم على المقاطعة والمخاصمة.
ثم أرسل إليهم علي عبد الله بن عباس في جماعة من أصحابه، فناظرهم تلك المناظرة المشهورة عند أهل الفرق وأصحاب الكلام؛ سألهم ماذا نقموا من أمير المؤمنين؟ فقالوا: تحكيمه الحكمين. فقال ابن عباس: إن الله قد أمر بالتحكيم في الصيد الذي يصيبه المحرم، فقال:
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام . وأمر بتحكيم حكمين بين الزوجين إن خيف بينهما الشقاق، فقال:
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا
فالله إذن قد حكم الرجال في الأمور اليسيرة، فكيف بالأمور الكبار التي تمس اجتماع الأمة وحقن الدماء؟!
Page inconnue