Fiqh al-Nawazil
فقه النوازل
Maison d'édition
مؤسسة الرسالة
Numéro d'édition
الأولى - ١٤١٦ هـ
Année de publication
١٩٩٦ م
Genres
-[فقه النوازل]ـ
المؤلف: بكر بن عبد الله أبو زيد بن محمد بن عبد الله بن بكر بن عثمان بن يحيى بن غيهب بن محمد (المتوفى: ١٤٢٩هـ)
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى - ١٤١٦ هـ، ١٩٩٦ م
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Page inconnue
هذا المجلد يحتوي على خمس رسائل
في دراسة النوازل الآتية:
١- التقنين والإلزام.
٢- المواضعة في الاصطلاح.
٣- خطاب الضمان البنكي.
٤- جهاز الإنعاش وعلامة الوفاة.
٥ - طرق الإنجاب في الطب الحديث - طفل الأنابيب.
1 / 5
" ١ "
التقنين والإلزام
عرض ومناقشة
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فلما كانت نازلة
إلزام القضاة بقولٍ مقنن أو مذهب معين من النوازل* التي تستدعي بحثًا
وتوجب اهتمامًا؛ لأسباب متكاثرة يجمعها أمران:
أولهما: لأنه على القضاء تدور المحافظة على حقوق العباد، ورعاية
حرماتهم، ورد الظلامات بينهم، وعمران مدنيتهم؛ متى ما سار التقاضي
على وحي السماء، وهدي الشريعة الغراء، الكامن في الوحيين الشريفين:
كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ.
إذْ أن حياة الأمة مرتبطة ثباتًا ونموًا وارتقاءًا، بقدر ما تحييه من العمل
بالوحيين الشريفين. ويكون نقصها واختلال موازين الحياة فيها بقدر الفوت
من ذلك.
ثانيهما: ولأن فلكة التقاضي وفصل الخصام بعد فهم الواقع
للخصومات، واستقطاب النظر فيها هو فهم الواجب في الواقع، وهو كامن
في تطبيق أحكام الشريعة المطهرة على ذلكم الواقع في كل قضية بعينها.
_________
(*) يراد بالنوازل: الوقائع والمسائل المستجدة والحادثة المشهورة بلسان العصر
باسم: النظريات، والظواهر. وفي مقدمة كتاب " فقه النوازل " صنعت مقدمة رحيبة
الجناب واسعة الأطراف كشفت فيها عن مسالك البحث العلمي في نوازل الأقضية
والأحكام وأبنت سبب العدول عن لفظ " نظرية " ونحوها إلى لفظ " النوازل " وستتم
طباعتها بإذن الله تعالى بعد تكامل حلقات الجزء الأول من هذا المشروع المبارك
وبالله التوفيق.
1 / 9
وهذا من معاقد الإسلام؛ والحاكم بنقيضه أي على خلاف ما أنزل الرحمن
موصوف بالفسق، والظلم، والكفران فلا تستقر لعبدٍ إذًا قدم في الإسلام
إلا إذا عقد قلبه على تحكيم شرع الله ودينه في كل شئونه وعلاقاته.
وما أحسن ما قاله الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى
في فاتحة كتابه " الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة " إذ يقول: (١)
(واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن
الدين كله لله، وأن الهدى هدى الله وأن الحق دائر مع الرسول وجودًا
وعدمًا، وأنه لا مطاع سواه، ولا متبوع غيره، وأن كلام غيره يعرض على
كلامه؛ فإن وافقه قبلناه، لا لأنه قاله. بل لأنه أخبر به عن الله ورسوله،
وإن خالفه رددناه، ولا يعرض كلامه ﷺ على آراء القياسيين، ولا على
عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا أذواق المتزهدين، بل تعرض هذه كلها
على ما جاء به، عرض الدراهم المجهولة على أخبر الناقدين، فما حكم
بصحته فهو منها المقبول، وما حكم برده فهو المردود) .
فلما كانت هذه النازلة من الأهمية بهذه المنزلة لهجت ألسنة العلماء
في بحثها، وتناولتها أقلام الكاتبين بين القبول والرد؛ باحثين: هل يجوز
الإلزام بمذهب معين أو قول مقنن لمن يتولى القضاء الشرعي، أو بلسان
العصر: لمن يتولى منصب الحاكمية؟؟ .
وقد تكاثرت البحوث فيها تبعًا واستقلالًا، وقوةً وضعفًا. غير أنه قد
صار من الضغث على إبالة؛ أن بعض الأبحاث المعاصرة في هذه النازلة
إضافة إلى ضعف مادتها، أجرى عرض الخلاف على وجه ليس محلًا
للخلاف: بمعنى هل يجوز التقنين أو لا يجوز؟ .
_________
(١) انظر: مختصر الصواعق ١ / ٣٣ المطبوع بمصر بمطبعة الإمام.
1 / 10
وهذا خطأ صرف، وعدم وقوف على حقائق مسائل العلم، ومواطن
الخلاف. فإن التقنين حقيقته تأليف، والغلط وقع في النزوع عن
مصطلحات الشريعة، إذ أطلق هذا اللفظ عليه، فصار من آثاره السالبة مع
ذلك إبعاد الأفهام عن المعهود من الحقائق والمضامين في علوم الشريعة
وأحكامها.
ومهما كانت التسمية تقنينًا، أو تدوينًا، أو تأليفًا، فإن هذا عَرْضٌ
مغلوط، ودائرة الخلاف إنما هي منحصرة في الإلزام جوازًا أو منعًا.
لهذا فقد رأيت بحثها وتقرير ما توصلت إليه فيها لتكون على طرف
الثمام أمام أهل الإسلام مشاركة مني في النصيحة لله ولرسوله ﷺ ولأئمة
المسلمين، وعامتهم.
وقد أجريت الكلام فيما حررته مرتبًا له في مطالب ثلاثة:
المطلب الأول: وفيه عرض لتاريخ نشوء هذه الفكرة؛ وهي حمل
القضاة على مذهب معين.
المطلب الثاني: في بيان أوجه القول بها مع بيان المصالح المترتبة
عليها، ثم إتباعها بمناقشتها.
المطلب الثالث: في بيان وجوه المنع منها مع بيان المضار المترتبة
على القول بها.
ولعل في ترتيب القول في هذه النازلة على هذا النمط والسياق تقريبًا
للأفهام، ومزيدًا من الوقوف بوضوح على القول الحق فيها.
وهذه هي الطريقة التي سلكها شيخا الإسلام ابن تيميه وابن القيم
رحمهما الله تعالى وأرشدا إليها، وبها أخذ أنصار الكتاب والسنة
1 / 11
المستضيؤون بنورهما إلى يومنا هذا.
ومنه قول ابن تيميه في ذلك ما يلي (١):
(يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر كل قول،
ومعارضة الآخر له، حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته، فإن
الكلام بالتدريج مقامًا بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا
هجم على القلب الجزم بمقالات لم تحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما
يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها) .
ويتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى بإنعام الله عليه في هذه الطريقة
فيقول (٢):
" ... ونحن نذكر مأخذ هذه الأقوال وما لكل قول وما عليه، وما هو
الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة، على طريقتنا التي منَّ
الله بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق ".
وأسأل الله تعالى التوفيق والإعانة والسداد. آمين.
المؤلف
بكر بن عبد الله أبو زيد
تحريرًا في مدينة النبي ﷺ عام ١٣٩٢ هـ، وأنا بها مجاور ثم تم
تبييضه في مدينة الرياض عام ١٤٠١ هـ. وأنا بها نزيل.
_________
(١) بواسطة طريق الوصول ص / ١٧٠ للشيخ عبد الرحمن السعدي.
(٢) كتاب الروح ص / ٩٣.
1 / 12
إيقاظ
وإنه قبل الأخذ بهذا تنبغي الإشارة مقدمًا إلى محل التجاذب في بيان
من هو القاضي الذي يُلْزَم وما هي الأحكام التي يُلْزَم بها. وذلك ونظيره
منحصر في الأقسام الآتية:
١- إن الحكم الثابت بنص قطعي الثبوت والدلالة من كتاب أو سنة
أو إجماع؛ هو ملزم بنفسه ولا يحتاج إلى أمر خارج عنه.
٢- إن القاضي المجتهد الذي توفرت فيه أدوات الاجتهاد ليس محل
خلاف في أنه لا يجوز إلزامه في التقليد لأحكام مناطها الاجتهاد (لأن
التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع) كما حكاه ابن
فرحون (١) .
٣- إذًا فإن محل التجاذب في الإلزام بالأحكام المقننة هي الأحكام
الاجتهادية التي تجاذبتها الأدلة الشرعية أو الإرجاع إلى قاعدة من القواعد
المرعية.
٤- وإن محل التجاذب في الشخص المُلْزَم: هو القاضي المقلِّد الذي
لم تتوفر فيه أدوات الاجتهاد.
_________
(١) تبصرة الحكام ١ / ٥٧.
1 / 13
المطْلَبُ الأول: عَرْضُ تاريخِ نُشُوء هذِه الفِكْرَة
1 / 15
المطْلَبُ الأوّل: عرَضُ تاريخِ نُشُوء هذه الفكرة
وهي جمع القضاة على مذهب معين
ومراحل العرض لتاريخ هذه الفكرة في هذا المطلب حسب الاستقراء
والتتبع على ما يلي:
١- يرى بعض الباحثين أن مُبدي فكرة جمع الإمام الناس على رأي
واحد في القضاء.. هو ابن المقفع.
وابن المقفع: هو عبد الله بن المقفع الأديب المشهور. ترجمه جماعةٌ
منهم: الحافظان؛ ابن كثير في تاريخه (١)، وابن حجر في: " اللسان " (٢) .
ولم يذكرا في ترجمته ما يوحي بعدالته. بل قال ابن حجر: ونقل عن ابن
مهدي أنه قال ... (ما رأيت كتابًا في زندقة إلا هو أصله) أي: ابن
المقفع.
وقال ابن حجر أيضًا (٣): في ترجمة صالح بن عبد القدوس صاحب
الفلسفة والزندقة كما وصفه الحافظ ابن حجر بذلك: ... وقال الشريف أبو
القاسم المراغي في كتاب " غريب الفوائد " كان كحماد الراوية وعَدَّ جماعةً
_________
(١) البداية والنهاية ١٠ / ٩٦.
(٢) لسان الميزان ٣ / ٣٦٦. (٣) لسان الميزان ٣ / ١٧٣.
1 / 17
منهم: ابن المقفع.. قال: (مشهورين بالزندقة والتهاون بأمر الدين) .
انتهى.
ثم قال الحافظ: (قلت وليس لهؤلاء رواية فيما أعلم) .
وفكرته هذه هي في كلامه الذي وجهه إلى أمير المؤمنين المدوَّنِ في
رسالته المعروفة باسم: " رسالة الصحابة " (١) .
وهذه الرسالة بطولها في كتاب: " جمهرة رسائل العرب " (٢) نقلًا منه لها
عن كتاب " المنظوم والمنثور " لابن طيفور.
وفيها ابتداءً من ص / ٣٦ قول ابن المقفع: (ومما ينظر أمير المؤمنين
من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار، والنواحي: اختلاف هذه
الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرًا عظيمًا في الدماء والفروج
والأموال؛ فيستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان بالكوفة.. إلى أن
قال: فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة فترفع
إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر
أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية أمره الذي يلهمه الله ويعزم
عليه، ويَنْهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابًا جامعًا عزمًا؛ لرجونا
أن يجعل الله هذه الأحكام المختلفة الصوابَ بالخطأ: حكمًا واحدًا
وصوابًا. ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير
_________
(١) المقصود بالصحابة هنا: صحابة الولاة والخلفاء لا صحابة الرسول ﷺ كما هو
شائع، واستعمال الكلمة بهذا المعنى معروف إذ ذاك نسبة إلى المتصلين بهؤلاء
(انظر كتاب: عبد الله بن المقفع لجورج غريب ص: ٥٨) .
(٢) جمهرة رسائل العرب ٣ / ٢٥ مؤلفه: محمد زكي صفوت.
1 / 18
المؤمنين، وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر آخر الدهر إن شاء
الله) . انتهى.
٢- كما يروى في ذلك ما كان من الحوار، بين أبي جعفر المنصور
المتوفى سنة ١٥٨ هـ وبين الإمام مالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ هـ.
كما ذكرها مسندة الحافظان: ابن عساكر (١)، وابن عبد البر (٢) .
وأسانيدها لا تخلوا من مقال؛ ففي بعضها الواقدي صاحب المغازي
محمد بن عمر بن واقد الأسلمي وهو متروك الحديث (٣)، حتى مال ابن
جرير إلى كون القصة وقعت بين المهدي والإمام مالك لا مع أبي جعفر.
ولما أراد أبو جعفر حمل الناس على رأي واحد قال له مالك كما في رواية
ابن عساكر: (لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا
أحاديث وروايات وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به،
من اختلاف الناس وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس
وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم، فقال: لعمري لو
طاوعني على ذلك لأمرت به) . انتهى.
وفي الرواية الثانية من طريق خالد بن نزار أن مالكًا قال: (... فقلت
يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله ﷺ تفرقوا في البلدان واتبعهم
الناس فرأى كل فريق أن أتبع متبعًا) . انتهى.
_________
(١) كشف المغطا ص / ٤٧.
(٢) الانتقاء ص / ٤١. وانظر ص / ٣٨ - ٣٩ من عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق
للباني.
(٣) كشف المغطا ص / ٤٧.
1 / 19
وفي رواية ابن عبد البر أن مالكًا قال: (.. يا أمير المؤمنين قد رسخ
في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به، ورد العامة عن مثل هذا
عسير) . انتهى.
وفي اختصار علوم الحديث لابن كثير (١)، قال: (وقد طلب المنصور
الإمام مالك أن يجمع الناس على كتابه فلم يجبه إلى ذلك، وذلك من
تمام علمه، واتصافه بالإنصاف. وقال: إن الناس قد جمعوا واطلعوا على
أشياء لم نطلع عليها) . انتهى.
٣- ثم إنه نحوًا من ذلك ما وقع بين المهدي محمد بن أبي جعفر
المنصور المتوفى سنة ١٦٩ هـ وبين مالك ﵀. كما رواها الحافظ
ابن عساكر في " كشف المغطا " (٢) والحافظ ابن عبد البر في " الانتقاء " (٣) .
٤- ويروى أيضًا أن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور المتوفى
سنة ١٩٣ هـ وقع له مع الإمام مالك مثل ما وقع لأبيه وجده مع مالك
رحمه الله تعالى كما رواها أبو نعيم في " الحلية " (٤) وفيها:
(قال مالك شاورني هارون الرشيد في ثلاث - ذكرها - ومنها: في أن
يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، وفي أن ينقض منبر
النبي ﷺ ويجعله من جوهر وفضة.. فقال مالك: أما تعليق الموطأ في
_________
(١) ص: ٣٠ من اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث للشيخ أحمد
شاكر.
(٢) ص: ٤٨.
(٣) ص: ٤٠.
(٤) حلية الأولياء ٦ / ٣٣٢.
1 / 20
الكعبة، فإن أصحاب رسول الله ﷺ اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في الآفاق
وكل عند نفسه مصيب..) إلخ.
وفي إسنادها عند أبو نعيم: المقدام بن داود بن عيسى بن تليد
الرعيني، أبو عمر البصري، قال فيه النسائي: ليس بثقة (١) . لكن قال
الشوكاني في " القول المفيد " (٢): وقد تواترت الرواية عن الإمام مالك أن
الرشيد قال له: (إنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه، فنهاه عن ذلك.
وهذا موجود في كل كتاب فيه ترجمة الإمام مالك، ولا يخلوا من ذلك إلا
نادرًا) . انتهى.
وممن أشار إلى وقوع هذه القصة لمالك مع الرشيد: ابن القيم رحمه
الله تعالى كما في كتابيه: " إعلام الموقعين " (٣)، و" الروح " (٤) .
٥- ثم يرى بعض الباحثين المعاصرين (٥)، أن هذه الفكرة بقيت معطلة
بعيدة عن التنفيذ حتى اتجهت الحكومة العثمانية في أواخر القرن الثالث
عشر الهجري قبل انقراضها بإخراج قانون للمعاملات يتلائم وروح العصر،
مقيدًا بالمذهب الحنفي دون التقيد بالرأي الراجح من المذهب الحنفي،
فصدرت بذلك " مجلة الأحكام العدلية " متضمنةً جملةً من أحكام:
البيوع، والدعاوى، والقضاء ... (وكان تاريخ صدور هذه المجلة في عام
١٨٦٩ م) (٦) .
_________
(١) انظر: ميزان الاعتدال للذهبي ٤ / ١٧٥، ولسان الميزان لابن حجر ٦ / ٨٤.
(٢) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد ص: ١٧.
(٣) ٢ / ٣٦٣ - ٣٦٤. (٤) ص: ٢٦٦ - ٢٦٧.
(٥) منهم: الأستاذ محمد سلام مدكور في كتابه: القضاء في الإسلام ص: ١١١.
(٦) انظر: تاريخ القانون لزهدي يكن ص: ٢٨٦.
1 / 21
ثم ظهر بعد ذلك قانون مستمد من المذهب الحنفي وغيره من مسائل
النكاح والفُرَق.
ثم إن الخديوي إسماعيل رفض الأخذ بها على ما أشار به عليه
مستشاره الفرنسي.. (وفعلًا فقد تطلع الخديوي إلى القوانين الغربية، ولما
حدث هذا بدأ الإستياء على رجال الدين (١)، وظهر أثره في نفوس طوائف
الشعب، فقام الفقيه: قدري باشا بعمل مجموعة من القوانين من المذهب
الحنفي، ولكن هذه القوانين لم يقدر لها أن تصبغ بصبغة رسمية) (٢) .
٦- ثم إنه في هذا القرن اتجهت بعض الحكومات التي تحكم
الأنظمة الوضعية إلى وضع قانون للأحوال الشخصية (٣)، مستمد من
المذاهب الأربعة وبعضها مستمد من المذهب الحنفي، ولم تثبت تلك
على الوتيرة المختارة، بل بين كل حين وآخر يصدر لها مذكرة تفسيرية
وأخرى إلغائية واستبدالها برأي آخر وهكذا.
٧- والخلاصة من هذا العرض وغيره للمراحل التي مرت بها هذه
الفكرة هي ما يلي:
_________
(١) ليس في الإسلام طائفة تسمى برجال الدين، فهذا اصطلاح كنائسي. ولو عبر
الكاتب برجال العلم لكان أولى. وقد حررت هذا في كتابي (معجم المناهي
اللفظية) .
(٢) القضاء في الإسلام: يراد بهذا الاصطلاح أحكام النكاح وتوابعه.. وهو اصطلاح
مرفوض شرعًا، وله سوالبه الكثيرة. وقد بسطته في كتابي (معجم المناهي اللفظية) .
(٣) الأحوال الشخصية: يراد بهذا الاصطلاح أحكام النكاح وتوابعه.. وهو اصطلاح
مرفوض شرعًا، وله سوالبه الكثيرة. وقد بسطته في كتابي (معجم المناهي اللفظية) .
1 / 22
أ - إن هذه الفكرة لم تكن معهودة في صدر الخلافة الإسلامية حتى
عام ١٤٤ هـ.
ب - إن مبدى هذه الفكرة بعد هو عبد الله بن المقفع أحد الكتاب
الأدباء على ما تقدم بيانه وبيان حاله.
جـ - إن ثلاثة من خلفاء بني العباس وهم: أبو جعفر المنصور، وابنه
المهدي، وحفيده هارون الرشيد، طلب كل واحد منهم - على ما يروى -
من الإمام مالك تنفيذ هذه الفكرة فمانع إمامُ دار الهجرة كلَّ واحد منهم
في تنفيذها بحمل الناس عليها. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (فكان هذا
من تمام علمه واتصافه بالإنصاف) (١) .
د - إنه لا يعرف للإمام مالك رحمه الله تعالى منازع في عصره من
العلماء في رده ما دعاه إليه الخليفة.
هـ - إنه بدليل الاستقراء والتتبع، لا يعرف لهذه المسألة بين العلماء
والولاة ذكر ولا أثر منذ ذلك التاريخ حتى أواخر القرن الثالث عشر، وإلا
فمتعصبة المذاهب منتشرون من بعد انقراض القرون المفضلة على ما في
القول المفيد للشوكاني (٢) .
غير أن برهان الدين بن فرحون المالكي المتوفى سنة ٧٩٩ هـ قال
في: " تبصرة الحكام " (٣):
_________
(١) اختصار علوم الحديث، ص: ٣٠.
(٢) ص: ١٧.
(٣) تبصرة الحكام بحاشية فتاوى عليش: ١ / ٥٧.
1 / 23
(وقال أبو بكر الطرطوشي: أخبرني القاضي أبو الوليد الباجي، أن
الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلًا شرطوا عليه في سجله ألا يخرج عن قول
ابن القاسم ما وجده. قال الشيخ أبو بكر: وهذا جهل عظيم منهم. يُريد
لأن الحق ليس في شيء معين، وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود
المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان - وعد جماعة منهم - ثم قال:
وهذا الذي ذكره الباجي ورد نحوه عن سحنون وذلك أنه ولى رجلًا القضاء،
وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق، فشرط عليه سحنون ألا
يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك. قال ابن راشد: وهذا يؤيد
ما ذكره الباجي ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر. فكيف يقول ذلك، والمالكية
إذا تحاكموا فإنما يأتون ليحكم بينهم بمذهب مالك) . انتهى.
إيقاظ:
وأمام التعصب المذهبي، أخذ العلماء بتفنيد ذلك في تضاعيف
مؤلفاتهم، وفي مؤلفات مستقلة، منهم: ابن عبد البر في " جامعه "
والشاطبي في " الاعتصام " وابن القيم في " الإعلام " وشيخه في مواضع من
كتبه. وأبو شامة في كتابه " المؤمل في الرد إلى الأمر الأول " والشوكاني في
" القول المفيد " وشيخنا محمد الأمين الشنقيطي في كتابه " أضواء البيان في
إيضاح القرآن بالقرآن " والفلاني في " إيقاظ همم أولي الأبصار " وغيرها
كثير.
وإن هذه المؤلفات وما جرى مجراها هي في الجملة تفيد منع حمل
الناس على مذهب معين أو قول مقنن. والله أعلم.
وإنه لما صار التقنين في المجلة المذكورة صار دركةً أولى لحلول
القانون الفرنسي.
1 / 24
ز - إنه لما صار تقنين الأحوال الشخصية - على حد اصطلاحهم - في
أوائل هذا القرن، لم يستقر على ما حصل عليه الاتفاق.
ح - إن موحد الجزيرة العربية بعد فرقتها إمام المسلمين الملك
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ﵀ عرض أمر تلك
الفكرة شورى على علماء المملكة منذ نصف قرن تقريبًا، فاجتمع رأيه مع
العلماء على ردها رحمة الله تعالى عليهم أجمعين (١) .
_________
(١) انظر بيان ذلك في رسالة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن بسام عضو هيئة التمييز
بالمنطقة الغربية - المسماة (تقنين الشريعة. أضراره ومفاسده) .
1 / 25
المطْلَبُ الثاني:
في بَيَان أوجُه القول بالإلزام مَع بيَان المصالح
المترتّبة عَليْه ثمَّ اتباعِها بمُناقشتها
وإيضاح المطلب في فصولٍ ثلاثة
1 / 27
الفصل الأول
في أوجه القول بالإلزام
وجه القائلون بالإلزام قولهم به بطائفة من الأدلة أهمها ما يلي:
١- استدلوا بقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (١) الآية.
قالوا: فإن ولي الأمر إذا أمر بما ليس فيه معصية، ولا يتعارض مع
أحكام الشريعة، وجبت طاعته لهذه الآية، والإلزام بالتقنين ليس فيه معصية
لا ظاهرًا ولا ضمنًا، ولا يتعارض مع الشريعة بوجه وهو مصلحة رآها الوالي
فيجب الالتزام بما ألزم به.
٢- والتقنين قد وجد ما يدل له من فعل السلف؛ حيث جمع عثمان
﵁ الناس على مصحف واحد، وقراءة واحدة، وأحرق ما عداه
من المصاحف، وفيها القراءات الشاذة والمتواترة. وذلك سدًا منه لباب
الخلاف فكذلك هنا.
٣- قالوا: الأصل في الشريعة كما ذكره علماء الأصول: أن تكون
معلومة أو في حكم المعلومة، لتكون ملزمة، أي فينبغي أن يكون ما هنا
كذلك.
_________
(١) الآية رقم ٥٩ من سورة النساء.
1 / 29