48

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

إذن، سأجلو حافظا في هذه «المرآة»، وأرمي فيه بالقول، وإذن سأدخل في الورطة وتحق علي الكلمة في كل حال! ويح نفسي من عنت أهل العنت من القراء، فإنني إن قلت فيه خيرا قالوا: شهادة صديق لصديق، فهي متهمة مهدرة، وإن قلت شرا قالوا: ما أنكره للود وما أكفره!

وما لي لا أعوذ من ألسن هؤلاء بالحق، فالحق أجدى من مصانعة هؤلاء. وعلى هذا، فإني سأطلق كلمة الحق في صديقي حافظ، وأعوذ بالله تعالى أن يلحقني فيه قول ذلك الحكيم: «إن قول الحق لم يدع لي صديقا.» ولا تنس بعد هذا يا سيدي القارئ مبلغ ما يضحي به الكاتب المسكين في سبيل رسالة يؤديها قلمه إليك لتلهو بها خمس دقائق أو ستا، وهو لا يطمع منك في أكثر من أن تقصد في حكمك، وتترفق في نقدك وشتمك، والتضحية في هذه المرة ليست بجسم يتعب، ولا بمال يغصب، ولا بقلم يغلب، ولا بسب يجلب، إنما هي باستهداف ود دام إحدى وعشرين سنة للجلجلة بله الزوال، وهي كانت متن الصبا، وهي كانت نضرة العمر، وهي هي الذكرى الباقية لحلو الحياة لمن أبرمه مر الحياة!

فإن لم تك «المرآة» أبدت وسامة

فقد أبدت «المرآة» جبهة ضيغم

ما لي قد غشيني من هذه العواطف المحزونة الوالهة، حين عرض لي اسم حافظ ما لم يغشني قبل لاسم إنسان؟ وفيم كل هذا ولعلي لا أصيب في صديقي إلا خيرا! حقا، إني لأخشى أن أكون اليوم مريضا، وأن الأمر كله من لوثة الأعصاب. فإن كنت معافى صادق الوزن، فإنني أرجو أن يكون صديقي حين تقع له هذه المقالة معافى ، متزن الأعصاب. •••

حافظ إبراهيم شاعر، فهو يحب الجمال ويجتمع له، ويكره القبح وينعى على أهله، يجابه بذاك مجابهة، لا يتقي في القول ولا يتحرف، وما إن طلع عليه فتى دميم الخلق، غير مستوي معارف الوجه إلا قال له: يا فتى، ليس الوزر عليك بل على أبيك لأنه لم يؤد مهرا! وإذا اطردت نظرية حافظ، فلا شك في أن المرحوم والده تزوج على الطريقة الإفرنجية فلم «يدفع» مهرا، بل هو الذي أخذ «الدوطة».

جهم الصوت، جهم الخلق، جهم الجسم، كأنما قد من صخرة في فلاة موحشة، ثم فكر في آخر ساعة في أن يكون إنسانا، فكان «والسلام»! أما ما يدعى فمه فكأنما شق بعد الخلق شقا، وأما عيناه، فكأنما دقتا بمسمارين دقا. وأما لون بشرته، والعياذ بالله، فكأنما عهد به إلى «نقاش» مبتدئ تشابهت عليه الأصباغ والألوان، فداف أصفرها في أخضرها في أبيضها في «بنفسجيها»، فخرج مزجا من هذا كله لا يرتبط من واحد بسبب، ولا يتصل بنسب. وإنك لو نضوت عنه ثيابه وألبسته دراعة من دونها سراويل، وأفرغت عليه من فوقها جبة ضافية، وتوجته بعمامة عظيمة متخالفة الطيات، لخلته من فورك دهقانا من دهاقين الفرس الأقدمين! فإذا جردته كله وأطلقته في البر حسبته فيلا، أو أرسلته في البحر ظننته درفيلا! ولكن! ولكن اكشف بعد هذا عن نفسه التي يحتويها كل ذلك، فلا والله ما النور بعد الظلام، ولا العافية بعد السقام، ولا الغنى بعد البؤس، ولا إدراك المنى بعد طول اليأس، بأشهى إليك، ولا أدخل للسرور عليك من هذا حافظ إبراهيم!

خفيف الظل، عذب الروح، حلو الحديث، حاضر البديهة، رائع النكتة، بديع المحاضرة، إذا كتب لك يوما أن تشهد مجلسه، أخذك عن نفسك، حتى ليخيل إليك أنك في بستان تعطفت جداوله، وهتفت على أغصانه بلابله، وأشرق نرجسه وتألق ورده، فأذكراك طلعة الحب: تانك عيناه وهذا خده! وتنفس فيه النسيم بسحر هاروت، فأعجب لمن ينشره هذا النسيم كيف يموت! والبدر في ملكه بين المجرة والجوزاء، يخلع على الروض حلة فضية بيضاء ، فلا تدري أأمست السماء في الروض، أم أمسى الروض في السماء؟

ولم أر قط رجلا أسرع منه حفظا ولا أثبت حافظة، ولقد تقع له المقالة الطويلة أو القصيدة الضافية، فترى نظره يثب فيها وثبا حتى يأتي على غايتها، وإذا هو قد استظهر أكثر جملها، أو أبياتها إن كانت قصيدا، وإذا هي ثابتة على قلبه على تطاول السنين. كذلك لم أر قط رجلا اجتمع له من متخير القول ومصطفى الكلام مرسلا ومقفى مثل ما اجتمع لحافظ إبراهيم، فكان حقا له من اسمه أوفر نصيب. وإذا كنت ممن يجري في صناعة الكلام على عرق وهيئ لك أن يحاضرك حافظ في الأدب، لصب على سمعك عصارة الشعر العربي، وأبدع ما انتضحت به القرائح من عهد امرئ القيس إلى الآن. ويمكنك أن تعد بحق حافظا أجمع وأكفى كتاب لمتخير الشعر العربي عرف إلى اليوم. وليتهم، إذ يشرف على السن، بدل إحالته على المعاش يحيلونه على أحد «دواليب» القسم الأدبي في دار الكتب، إذن لعصموا عليها ذخيرة هيهات أن تعوض على وجه الزمان.

Page inconnue