1
السير فأسأله: إلى أين يا فلان؟ فيقول: إلى الحلاق فقد اعتزمت اليوم أن أحلق «مونتسكييه» أو «أوجست كونت» أو «جان جاك روسو» أو غير أولئك من ضخام الرجال. ومثل هذا عندنا، لو لاحظت الناس، كثير!
ونعود إلى الأستاذ لطفي، فقد ظل في كفاحه وجلاده؛ إذ خاصة الناس كل يوم عليه في إقبال، حتى ضعضعت أفاعيل السياسة حزبه فكان آخر من ألقى السلاح. ثم عاد إلى النيابة فلم يتصل شأنه فيها بجلالة شأنه حتى كانت سنة 1919، فضحى بالمنصب في سبيل الثورة، وانتظم في الوفد المصري عضوا فكان فيه عنصرا قويا. وكانت أداته في أكثر ما يخرج للناس من بيان مكتوب. وانطلق مع الوفد إلى أوروبا ولبث معه عاملا نافذا، ما شاء الله أن يلبث، ثم عاد مع من عادوا أول الأمر. وتظهر بوادر الشقاق فيبدو له أن يتحفظ فيتحفظ، ثم يستفحل الخطب فيهديه عقله إلى أن يتسلل إلى داره في رفق فيفعل، فيبقى حلس
2
بيته سلما كله، حتى يطلب لما هو أليق به وأكرم، فيتولى دار الكتب المصرية ينظر في شأنها بعض اليوم، وينظر في شأن العلم سائره. وكان من حظ «نصف العزلة» هذه، أو من حظ العلم منها، أن أتم ترجمة كتاب الأخلاق لأرسطاطاليس «إلى نيقوماخوس»، وما كان الإبداع في ترجمة هذا الكتاب بأبلغ من الإبداع في الإقدام على إخراجه في مثل تلك الأيام!
ولقد فاتني أن أقول لك إن هذا الرجل الذي ضحى بالمنصب في سبيل الثورة، قد عاد فضحى بالثورة في سبيل المنصب، فأصبح كما يقول أصحاب الميسر «كيت»؛ لا له ولا عليه، وإلى هنا ينتهي عندي تاريخ ذلك الرجل العظيم!
وعساك تتحداني بأنه أصبح الأستاذ الأعظم الرسمي في كل البلاد من يوم أصبح «مدير الجامعة»، فأجيبك بأني «ماعنديش خبر» بشيء من هذا كله، وكيف تريدني على أن أصدق أن الأستاذ لطفي السيد كله أصبح مدير الجامعة المصرية، في حين لم أسمع بأنه أفاض على الطلاب درسا أو ألقى محاضرة في العلم واحدة! فإن كنت تريد «بمدير الجامعة» ذلك الموظف الذي ينكسر همه على طلب كسى الحجاب والسعادة، و«تسوية» أجور البوابين والجناينية، و«العرض» لوزارة المعارف عمن يلزم ترقيتهم من جماعة الكتاب، فليس ذلك بالرجل الذي يعنينا في مثل هذا المقال.
الحق أن لطفي أستاذي، وإنه ليسوءني أن يختم حياته في هذه «الجامعة» من حيث يجب أن تبتدئ الحياة القوية لعظماء الرجال!
والواقع، أن الداء «الأجنبي» قد تغشى تلك الجامعة، في حين لم نر لذلك «الحكيم» قولا ولا عملا! ولو كان هذا المقام مقام تفصيل في هذا الباب لباديت أستاذي العظيم بكثير! •••
ولطفي بك يجمع إلى عذوبة الروح عذوبة الحديث، وهو أديب تام يحفظ صدرا عظيما من متخير شعر العرب ومأثور أقوالهم، إلى فقه في متن اللغة ورعاية لدقائقها، وبخاصة إذا كتب أو حاضر أو خطب. وله في أبواب البيان والترسل أسلوب خاص به، حاول كثير من الكتاب أن يتكلفوه فانقطعوا دونه. وهو شديد الحرص على أن يريك أنه لا يعبأ بتجويد العبارة ولا يتحرى اللفظ الرشيق إذ هو في الواقع يجهد في هذا، رغم عنايته بالمعاني والتكثر من إيراد مصطلح العلماء، ويتعمل له إلى ما دون التعسف.
Page inconnue