فتبسم بيبو وقال: يا لك من فتاة ساذجة، لماذا لا تثقين بأخيك؟ انظري إلى هاتين الورقتين، فما هما؟ أجابت: هما جوازان إذا امتلأ الفراغ الذي فيهما ووقع في ذيلهما، أما في هذه الحالة فلا فائدة منهما. قال: أصبت، ولذلك عزمت على إملاء الفراغ فيهما.
وجلس إلى الخوان لساعته، وأخذ يكتب الجوازين وفيهما وصف بيبو وأخته وصفا تاما، وقد ذكر اسميهما أنيبال وكلوديا، ثم قلد التواقيع التي يجب تذييل الجوازين بهما، فدهشت جرجونة وقالت: لله درك يا أخي! ما أقدرك على الإتقان! والآن فما عسى أن نفعل؟ أجاب: لا شيء سوى حمل هذه الأوراق ما عدا شهادتي وفاة الولدين، فإنهما تحترقان على مذبح ثروتنا الجديدة.
قال هذا القول وتناول الشهادتين فأحرقهما في الحال، ثم قال: بقي علي أن أكتب إلى وكيل الأشغال في باريس بتوقيعي الحقيقي، وصفتي الرسمية، فأخبره بقرب قدوم أنيبال وشقيقته كلوديا بلميري إلى باريس، وهما الوارثان اللذين يبحث عنهما، ويحضران معهما جميع الأوراق الدالة على صحة نسبهما، وبعد ثمانية أيام نسافر أنا وأنت، وإذ ذاك نقبض العشرين مليونا ونتسمى باسمي بلميري.
قالت: لا بأس بالثروة أما الاسم فلا يعجبني، فنظر إليها وهو حائر، فقالت: ألا تراني أستحق تاج دوقة؟ أجاب: بلا شك، بل تستحقين تاج إمبراطورة، ولكن يهمنا أن نجد دوقا أو إمبراطورا يقدم لك تاجه. قالت: ولكن الدوق دي لوقا نفسه يقدم لي تاجه. قال: لله دره ما أكرمه! فهل عانقته مكافأة له على هذه العطية؟ أجابت: بل رفضتها، أما الآن بعد حدوث ما حدث فلست أرفض، وها أنا ذا ذاهبة لأخبره بقبولي عطيته، وسوف ترى.
وهنا حدثت بيبو بما دار بينها وبين الشيخ الضعيف، فهز رأسه وقال: عسى أن لا يكون المسكين قد عدل عن رأيه، فتبسمت الفتاة وقالت: تعال معي إذن، ودخلا في الغرفة المجاورة، وكان الشيخ دي لوقا مضطجعا مغمض العينين، فألقت جرجونة يدها على كتفه، ففتح عينيه وقال لها: لقد سرني أن أراك أيتها الحبيبة، وأن أرى أخاك أيضا؛ لأن ساعاتي معدودة، وقد اقترحت عليك منذ هنيهة أن تكوني زوجتي فلو رضيت لصرت أرملة بعد وقت قصير جدا. فأجابته: إنني أتيت راضية بالاقتراح، فأنا أريد أن أصير زوجتك.
فنظر إليها مستفهما، فقالت: لقد انكشف لي سر عظيم، وظهرت لي أسرة غنية. قال: لست أريد أن أسألك، ولكن رجلا مثلي ينتسب إلى آل لوقا لا يرجع عن كلامه، إذن ثقي بأنك ستدعين الدوقة دي لوقا، وفي اعتقادي أنك تحرصين على شرف هذا الاسم حرص أصحابه عليه من قبل، ولكن لا بد من التعجيل، والذي أراه أن للحكام الحق في عقد مثل هذا الزواج غير العادي ... فليأت بيبو بواحد منهم ويقل له إنه يوجد رجل مشرف على الموت وهو يدعوه، ثم فليدع لي قسيسا بعد ذلك.
فمضى بيبو والحمى تفترس الشيخ، وجرجونة تعطف عليه، وتبلل شفتيه بالماء البارد، إلى أن عاد بيبو ومعه موظف كبير وأربعة شهود وقسيس، فكتب العقد وتمكن الدوق المحتضر من التوقيع عليه بيد مرتجفة، أما جرجونة فوقعت عليه باسم كلوديا بلميري، ولما سألها الموظف عما يثبت نسبها أرته عقد مولد كلوديا بلميري المصدق عليه من قنصل إيطاليا في كلكتا، فلم يخامر الرجل شك في صدقها، وشهد مع الشهود الذين جمعوا من قارعة الطريق، ثم خرج الكل وبقي القسيس عند الدوق الشيخ فسمع اعترافه.
وبعد يومين قضى الرجل وعيناه محدقتان إلى وجه تلك الفتاة الحسناء التي ترك لها لقبه، وهو كل ما يمتلك من دنياه.
أما بيبو وجرجونة فلم يقيما في نابولي إلا أياما، فركبا القطار إلى باريس، وجرجونة تقول: أما الآن فإنني دوقة عظيمة؛ لأنني أمتلك الملايين! •••
فلندع الأخوين سائرين في طريق الغنى ولننتقل والقارئ إلى مدينة بوندشيري في الهند؛ وهي عاصمة الأملاك الفرنساوية، فندخل قصر حاكم المستعمرة وهو الكونت دي موري، نجد في إحدى غرفه فتاة في الخامسة عشرة من العمر هي ابنة حاكم المستعمرة، واسمها الآنسة بوليت دي موري، وكانت مضطجعة على مقعد، متشحة بثوب من الموصلينا البيضاء، صفراء اصفرارا رائعا كأنها مائتة، ويؤكد الطبيب روبلين أنها نجت من خطر الموت، ولا يتم لها الشفاء إلا بالحمية الطويلة الأمد والوقاية الشديدة، وكان والدها قرب فراشها وقد داخل نفسيهما شيء من الاطمئنان بعد طول القلق والانزعاج.
Page inconnue