وكان السير دراك يسمع هذا الكلام، ولئن ادعى أنه بعيد عن كل تأثر وانفعال، فادعاؤه بعيد عن الصواب؛ لأنه جعل يعض شفته كي لا يجهش للبكاء. ثم تجلد وقال: نعم أيها الأميرال، لا يسمع هذا الكلام أحد إلا وفؤاده يسيل حنانا.
فلم يلتفت إليه، وأجاب ابنته بقوله: تمني على الدهر أن يخمد الكبر والألم ذاكرتي، ولكن ما دمت أتذكر فلا ترتجي مني خيرا! ...
قالت: البث يا أبي معرضا عني لا تأخذك بي رحمة، غفر الله لك هذه القسوة، ولن ألتمس عفوك ولا رأفتك، ولكنني أكلمك عن ابنتي، وأسألك أن تفتح لي باب بيتك حرصا على حياتها؛ لأنها عادت إلى باريس ولم أرها منذ عام مضى، ولا بد لها أن تراني! ... فلا تحفل بآلامي أنا المجرمة في نظركم، ولكن لا تحمل حفيدتك مثل تلك الآلام وهي البريئة من كل ذنب ... لا تحرم عليها عطف أمها ... ولئن لم أعطف عليها ها هنا فأين يكون ذلك؟ أما بيت الكونت دي موري فجنة مقفولة في وجهي ... ولست تجهل أن بوليت لا يؤذن لها بأن تزورني، فهل ترى أن ألتقي بابنتي في زوايا الطرق وعطفاتها؟ وأتضرع هناك إليها كالمتسولة لتتصدق علي بنظرة أو تتبرع علي بقبلة؟ آه! لا تطلب ذلك مني يا أبي، فذلك كثير علي.
فاضطرب الأميرال في هذه المرة، ولكنه بقي مترددا كأنه يقاوم نفسه، فقالت له زوجته: ألست ترى عذابها؟
ومن العجب أن عبرات الوالدة انقطعت وكأنها صارت امرأة أخرى غير ذاتها، أما إيليا دراك فدهش من منظرها فتغلب على انفعاله، وقال في نفسه: بدأت أتلهى وأتسلى.
فصاح الأميرال: وأنت، ألست تدرين عذابي؟ ألا تعلمين أن فؤادي يتقطع كفؤادها؟ كل جارحة في داعية إياي إلى أن أضمها إلى صدري، ومع ذلك لا ينبغي لي أن أفعل ولا طاقة لي على ذلك ... وضرب بقدمه الأرض وقال: كلا فلتذهب.
فرفعت لورانس رأسها وقالت: إني ذاهبة، وأسأل الله أن لا يناقشك الحساب يوم القيامة بمثل هذه الشدة التي تبديها لابنتك، وخطت خطوة إلى الباب، غير أن قواها خذلتها فتوكأت على كرسي، فبادرت إليها والدتها وأمسكتها وهي تقول: ابنتي لورانس، ابنتي لورانس! فأجابتها: إنني لم أشك قط في محبتك يا أماه ... ولعمري يلذ لي أن أموت في هذه الساعة شاعرة بندى عبراتك يتساقط على جبيني. قالت: وهل تريدين الموت أيتها المنحوسة؟ فتبسمت وأجابت: حبذا الموت وأنت وبوليت بين ساعدي. فقبليني يا أماه أيضا! ودعيني أمضي ، ولئن لبثت ها هنا أيضا فإن قواي تخونني، وأسقط في هذا الموضع ميتة، فوداعا يا أماه.
فضمتها إلى صدرها بقوة، وقالت: كلا، فلست أدعك تذهبين، وأنت في هذه الحال.
وانثنت إلى زوجها فقالت له: إن مناضلتك فؤادك إلى هذا الحد خشونة وفظاظة، والندم داعية العفو، كما أن الدموع داعية الشفقة، وحاشا أن تظل جافيا، وتنبذ ابنتنا وهي تترامى على قدميك.
فكاد يجن حنقا وصاح: كلا، كلا.
Page inconnue