أجاب: نعم، وإن سرني أن ألقاك، لكنني أعيد سؤالي عليك فإنك لم تجاوبيني عليه حتى الآن، ولا أدري لماذا عهدت إليك زوجة الأميرال بالحلول محلها في المهمة التي استقدمتها لأجلها، ومن مصلحتها أن لا يعلم شخص ثالث بما بيني وبينها، قالت: إنها تجهل زورتي هذه، وستظل جاهلة إياها كما أرجو، وأنا التي فتحت رسالتك، أنا الكونتة دي موري ابنتها.
قال الشاب: عجبا! إذن أنت أختي؟
فظنت لورانس أنه مجنون، ولم تخف بل سرت سرورا كبيرا لانجلاء الغامض، وأيقنت أن كاتب الرسالة المزعجة كان ضائع الرشد، فلطفت صوتها وجاملت من حسبته مجنونا؛ لتعلم ما صوره له ذهاب عقله، فقالت: لم أكن أدري أنني أختك يا مسيو بوريل، فأوضح لي هذه المسألة؛ لأن أبي وأمي نسيا أن يخبراني أن لي أخا ...
فنظر إليها متعجبا من سكينتها، وتوهم في أول الأمر أنها تسخر به، لكنه آنس شفقة في بصرها فأدرك الحقيقة، فقال لها: أنت تحسبينني مجنونا ... أم سكران! ولكنك واهمة، فإن هذه الغرفة الحقيرة لم تدخلها زجاجة خمر من عهد بعيد ... ومع ذلك فإن الفقر والشقاء لم يذهبا برشدي حتى الآن، فأنا لم أقل إلا الحق، وأنا أخوك حقا.
ثم أبرز لها رسائل مكتوبة بخط والدتها، فقرأتها وهي مرعوبة، فلم يبق في نفسها أثر للشك، وإليك تلخيص الخبر: إن زوجة الأميرال فارقها زوجها فيما مضى من صباها ثلاثة أعوام؛ إذ كان في مداغسكر يقوم بمهام منصبه، فارتحلت في تلك الأثناء إلى مسكن قديم لأسرتها في قرية من قرى لورين، فأقامت فيه وحيدة منفردة، ورآها ذات يوم جار لها اسمه دي كورديو، فافتتن بها، وفي ذات ليلة فاجأها وهي في مضجعها فاغتصبها وفر هاربا خجولا من فعلته. إلا أن ذلك الذنب لم ينقض بسفره؛ لأن زوجة الأميرال حملت من دي كورديو وولدت غلاما وسلمته إلى أحد القرويين يربيه، ثم عادت إلى باريس، وفيها علمت بأن والد الغلام رجع إلى القرية وأخذ على عاتقه تربيته ثم ألحقه بنسبه، وما غنم الوالد أن قضى حزينا نادما على ذنبه. وقبل أن يموت أطلعه على سر مولده، وقال له: إذا وقعت في ضنك شديد فالق أمك زوجة الأميرال دي لامارش، فيحق لها أن تسعفك عند الضيق، أما أنا فلم يبق من ثروتي إلا القليل الذي لا يغنيك عن جوع.
هذا ما ذكره روبر لزوجة الكونت دي موري إلى أن قال لها: أنت ترين أنني كاشفتك بما في نفسي، وما تنبأ أبي منه قد تحقق؛ لأنني أضعت ما أورثني إياه من مال قليل، وحاولت كسب رزقي بوسائل عديدة فلم أفلح، وكدت ألجأ إلى الانتحار، لكنني ذكرت ما أوصاني به أبي، فكتبت إلى والدتي الرسالة التي وقعت في يدك بعد أن كدت أنسى أن لي أما ...
قالت: كدت تنسى أن لك أما! ومع ذلك فقد لبثت أعواما دون أن تحاول التعرف بها، ولو كنت في مكانك لسعيت إليها سعي المجد حتى أراها كل يوم عند مرورها، ولرفعت يدي إلى السماء شاكرا لها أنها منحتني أما مثلها.
قال: فهمت كلامك فأنت تشيرين إلى الحب البنوي، وتعتقدين أن المرء يكفيه أن تكون له والدة! ألا فاعلمي أن هذا الوتر لا يهتز في سريرتي، ولئن نظرنا إلى الحب البنوي واختلافه عندي وعندك فذلك لأن لكل منا أما تختلف عن الأخرى، أما أنت فوالدتك تستحق منك كل انعطاف؛ لأنها في نظرك وعطفها عليك وعنايتها بك وتضحيتها راحتها لأجل هناءك، ملك كريم، أما أنا فوالدتي لا تستحق مني إلا عدم الاكتراث، إن لم أقل الكره والمقت، فصاحت تقول: وهل يوجد في الدنيا من لا يحب أمه؟
قال: لك أن تحبي أمك ما شئت، ولكن هل كنت تحبينها لو لم تعرفيها؟ أو لو لقيت منها الإهمال مثلما لقيت؟ نعم، كان يمكن أن أطرح في الأزقة وأنشأ شريدا طريدا، ولا ذنب لي إلا أنها ولدتني، والمحبة البنوية ليست من الحشائش التي تنبت بفعل الصدفة أو الطبيعة، ولكنها غرسة لا تنمو ولا تكبر إلا إذا لفحتها حرارة المحبة الوالدية.
قالت: ولكنك نسيت أن أمك متزوجة، فما عسى أن تفعل لأجلك؟
Page inconnue